الحدود الروسية مسمار نعش الأطماع الأميركية – بقلم سماهر الخطيب
لا تُحسد روسيا الاتحادية على ما تعانيه من ضغوط “حدودية” منذ بداية العام المنصرم وصولاً إلى اليوم بدءاً من بيلاروسيا مروراً بأوكرانيا وصولاً إلى كازاخستان، وليست أحداث أرمينيا وأذربيجان ببعيدة زمنياً عن هذه البؤر المشتعلة والتي فُتحت جبهاتها الواحدة تلو الأخرى، ومن فتح صندوق باندورا في سورية وأشعل حرباً ناهزت العقد من الزمن ونيّف ليس ببريء من افتعال وإشعال تلك البؤر للضغط على روسيا ومحاولة إقامة ستار “ناري” لإلهاءها بتلك الأزمات وإغراقها في نزاعات تلك المنطقة الجغرافية وإثارة النعرات القومية وافتعال “ربيع أوراسي” في روسيا الأوراسية يبعدها عن تحالفها مع الصين ويستثمر في الوقت لإعادة بناء وتطوير قدراته العسكرية والفرط صوتية بعد التفوق الروسي في هذا المجال.
أضف إلى ذلك محاولة أخذ زمام الأمور “الدبلوماسية” والتي أرادها الرئيس الأميركي جو بايدن أن تبدأ بعهده حين أعلن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عن “بداية الحقبة الدبلوماسية” وما دفعنا لهذا القول هو الريادة الدبلوماسية الروسية والصينية بإدارة الأزمات في العقد الأخير.
وإذا أردنا الخوض في تفاصيل أحداث هذه المنطقة الجغرافية الأوراسية فإننا سنبدأ من الأزمة الأخيرة التي اشتعلت في كازاخستان والتي لـ”المصادفة” استعرّت قُبيل المحادثات الروسية – الأميركية بأيام قليلة رغم أنّ أسباب الأزمة مُحقة وهي رفع أسعار المحروقات إنما وكما العادة التي اعتدنا فيها على رؤية الأنغماس الأميركي – الغربي في كل ما من شأنه أن يثير الفوضى باعتبارها وفق القول الأميركي “فوضى خلّاقة” تحقق له مصالحه، ولطالما اعتاد الأميركي الاستثمار في طموحات الشعوب وأحلامهم ورغباتهم لتحقيق مصالحه وإرضاء رغباته فمن الواضح أنه لا يوجد بلد أكثر اهتماماً بزعزعة استقرار كازاخستان أكثر من الولايات المتحدة الأميركية حيث أنّ سياستها في جرّ روسيا إلى صراعات حدودية باتت مكشوفة.
أما ما يتم إطلاقه من تصريحات حول الديمقراطية وحقوق الإنسان و”المخاوف” الغربية والأميركية على الشعب الكزخي من ممارسة السلطة ضدّه فباتت مزاعم واهية وأحداث الشغب الفرنسية وما قامت به السلطات الفرنسية حينها ليس بالمثال المُحتذى به وكذلك الثورات المناهضة للعنصرية في الولايات المتحدة ومواجهة السلطات للمتظاهرين ليس بالأنموذج الأمثل ولسنا ببعيدين عن ذكرى اقتحام الكونغرس وكيف تعاملت السلطات مع المتظاهرين.. وما نريده من سرد هذه الأمثلة هو أن التاريخ يسجل وأن أكذوبة “الخوف ” على الشعوب من حكوماتها بات مضحكاً وساذجاً..
وأما ما يخص التصعيد الأميركي والغربي ضدّ روسيا لدخولها العسكري في كازاخستان فهو أيضاً تصعيد ليس بمكانه ولا داع له سوى صب الزيت على النار، فالقوات الروسية تواجدت وفق معاهدة الأمن الجماعي، والتي تستدعي وجود قوات روسيا وفق بنود المعاهدة وإن كانت تلك البنود تقول بوجود خطر خارجي وهناك من يقول أن الأحداث داخلية ولا وجود لهجوم خارجي فإنّ الخطر الإرهابي هو خطر خارجي وحفظ الأمن القومي الروسي يستلزم التدخل في أرض مجاورة حدودية وهي التي تدخلت في سورية لمحاربة الإرهاب حفاظاً على أمنها القومي.
ناهيك عن أنّ نسبة المواطنين الكازاخستانيين من أصول روسية تناهزه الـ 3.5 مليون نسمة، أو أكثر من 18% من سكان البلاد البالغ عددهم 19.2 مليون نسمة. وبلا شك فإن السكان الروس في كازاخستان سيصبحون الضحية الأولى للمسلحين الكازاخستانيين والمتطرفين القوميين في حالة الفوضى العارمة.
كما أنّ طول الحدود الروسية الكازاخستانية يتجاوز الـ 7500 كيلومتر، وفي حالة تطور الأحداث وعدم ضبط الأمور في كازاخستان فإنّ ذلك سيؤدي إلى كارثة إنسانية، ينتج عنها ربما تدفق ملايين اللاجئين إلى روسيا، والخطر الداهم هناك يأتي من إمكانية إنشاء “دولة إسلامية” على غرار السيناريو السابق في سورية والعراق.. وهو ما تريده الولايات المتحدة إن لم تكن راسمة له فإنه سيكون في الصالح الأميركي إغراق روسيا في مستنقعات عدة لاستنفاذ قدراتها وتشتيتها في تلك الأزمات إضافة لإنفاق جزء كبير من مواردها الأمر الذي سيضعف قدرتها على مواجهة الولايات المتحدة الأميركية في اتجاهات أخرى.
أما الفائدة الأبرز التي ستجنيها الولايات المتحدة في تصعيد الأحداث في كازاخستان فإنها تأتي من الجغرافية والموقع الجغرافي الاستراتيجي الذي تتمتع به هذه البلاد حيث يمرّ أقصر طريق برّي من الصين إلى أوروبا عبر كازاخستان، وباعتبار أنه منذ سنوات عدة تقوم الاستراتيجية الأميركية على مواجهة الصين وضرب مشروعها الحامل لاسم طريق الحرير فإن كازاخستان تكتسب أهمية استراتيجية في حالة الحصار البحري على الصين من قبل الولايات المتحدة. وبالتالي عرقلة ذلك المشروع واستكمال خطة أميركية قائمة على إقامة ستار ناري يحول دون إتمام طريق الحرير برياً وبحرياً ومن يعود إلى جغرافية بؤر الصراع سيجدها جميعها تقع في هذا الطريق “الصيني”.
وليست الأهداف الأميركية الآنفة الذكر ببعيدة عن انقلابي أوكرانيا وبيلاروسيا فالدور الأميركي كان واضحاً، وكذلك في أرمينيا وأذربيجان حيث اخضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين القوى العابثة في اذربيجان وارمينيا وقصم ظهر المشروع التخريبي هناك فأوقف الحرب التي دارت رحاها بين البلدين الجارين فارضاً خطوط تماس واتفاق سلام وقِّع في موسكو.
وفي أوكرانيا فرض أجندته وحسم أمره حين أعاد “القرم” إلى الحضن الروسي وإذا ما استمر الضغط الغربي والتصعيد الأميركي فليس بالمستبعد إعادة جزء كبير من أوكرانيا التي كانت جزء لا يتجزأ من روسيا طيلة قرون مضت والتاريخ يشهد.
وفي الازمة السورية التي كانت بوابة الحضور الأميركي على الساحة الدولية كانت الخبرة الروسية والتجربة التي ألهمت الروس الكثير من القوة لمواجهة المشاريع الغربية، فالحضور الروسي في الأراضي السورية بعاصفة السوخوي في ٣٠ ايلول ٢٠١٥ قد غيّر محاور الأحداث وسياقات التطورات ونتائج الحروب وحقق مكانة روسيا العالمية، كما منحت المنصة السورية لروسيا ظاهر تاريخية غير مسبوقة في الأمم والأزمنة بأن تحولت من دولة ثانوية لا يعترف لها بالإقليمية ومحاصرة ومعبوث بها وقد جردت من ذراعها الأيمن أوكرانيا إلى قوة عالمية بأقل الأكلاف وبأدنى الخسائر.
في المحصلة، ورغم التصعيد الغربي والأميركي في كازاخستان فإنه ومع إعلان الرئيس الكازخستاني السيطرة على زمام الأمور يمكننا القول بالفشل الأميركي في هذه الجولة والذي يترجم بعدم حصوله على جائزة يستثمر بها قبيل المحادثات الروسية – الأميركية في المقابل نجحت روسيا في عدم الغرق بمستنقع جديد وأظهرت قدرتها على التعامل مع بقعة ساخنة أخرى على حدودها.
إلا أنّ هناك عبرة يمكن استخلاصها من مجمل الأحداث الأخيرة وهي أنّ دول ما بعد الاتحاد السوفييتي تعاني من أزمة “الدولة” خاصة وأنها ظهرت بالصدفة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي ومحاولة الولايات المتحدة والغرب الأوروبي الاستثمار فيها كورقة ضغط ضدّ روسيا جعلها في أزمات بنيوية وأيديولوجية واقتصادية واجتماعية جمّة أدت إلى انفجار مجتمعي واضطراب سياسي وانهيار اقتصادي.
وبالتالي فإننا أما م سيناريوهين، الأول يقول بأنّ القيصر الروسي نهض من جديد والسياسة البوتينية باتت لا ترحم ولا تخشى من ينافسها وتأكيده على إعادة الأمجاد الروسية سيأتي لو متأخراً وإذا ما استمر الغرب باستفزاز روسيا فإن السحر سينقلب على الساحر ولربما سيؤدي إلى إعادة القيصرية الروسية بحلة جديدة جوهرها الأساس روسيا على امتداد جغرافيتها السابقة عبر التاريخ.
فيما يقول السيناريو الثاني بتصعيد الأوضاع في كل من كازاخستان وكذلك أوكرانيا وبيلاروس بمعنى تطور الأحداث في الحدود الروسية وتحديداً في حديقتها الخلفية ومجالها الفضائي وقاعدتها للفضاء الخارجي والتي تعد كازاخستان أساس تلك القاعدة وعدم قدرة روسية على ضبط الأوضاع هناك وبالتالي استنفاذ قدراتها التقنية والعسكرية وكذلك الفضائية والفرط صوتية..
وتبقى تلك المنطقة الأوراسية الجغرافية محور الصراع اليوم ريثما يتم إيجاد اتفاق ما يلزم الأطراف جميعها بمعاهدة ما أو تسوية ما تحفظ مصالح الجميع إنما من سيسجل الربح الأكبر ذاك هو السؤال الأبرز، وبوتين اليوم أمام مراهنة معقدة وامتحان تجاوز مثيله في الأعوام السابقة فهل سيتجاوزه ويسجل أهدافه كما سجلها سابقاً وتبقى البوادر للمرحلة المقبلة مرهونة بما سيتمخض عن المحادثات الروسية – الأميركية إما التصعيد وإما التهدئة