كتب غسان سعود في “الأخبار”:
يسيء كثيرون تقدير أهمية طيّ لبنان صفحة الحرب الباردة السنية – الشيعية التي رسمت طوال نحو عقدين خطوط تماس في المدن والبلدات والمنازل. وإذا كان البعض لا يعرف مكانة حماس في الوجدان السني، ولا سيما بعد عملية السابع من أكتوبر التي أعقبت عقوداً من الهزائم السياسية والعسكرية، فلن يقدّر بالطبع أهمية «تشبيك» حزب الله مع حماس وكل من يقفون خلفها وأمامها في العالم الإسلامي، وتأثير ذلك على الاستقرار في لبنان وسوريا والمنطقة. وهؤلاء الـ«كثيرون» أنفسهم لا يصغون إلى ما يصدح به خطيب جامع محمد الأمين في وسط بيروت منذ شهرين عن وحدة الشهادة و«قدسيّة القضية»، ولا يتوقفون عند بيانات الأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري عن «رصّ الصفوف» والابتعاد عن «المهاترات في ظل الحرب المتواصلة»، ولا يقدّرون مواقف نجيب ميقاتي ليس فقط بصفته الناطق الرسمي باسم الدولة في غياب رئيس الجمهورية، وإنما أيضاً بصفته الممثل الرسمي للطائفة السنية في النظام اللبناني. وهم أيضاً، رغم كل «محاضراتهم» عن الـ«أنتينات»، يديرون الأذن الصماء للبعد الجغرافي – العسكري – الأمني – السياسي لتموضع النائب السابق وليد جنبلاط إلى جانب المقاومة. كما أنهم، في جزرهم الجبلية، لا يعنيهم «الحوار الاستراتيجي» بين حزب الله ودول خليجية تعتبره شريكاً أساسياً في حماية استقرار المنطقة من البوابتين اللبنانية والعراقية، ولا يعنيهم أيضاً انتقال الأميركيين من «محاورة» الحزب على مستوى رأس الهرم الأميركي إلى الاعتراف بنفوذه كلاعب إقليمي إيضاً عبر طلب توسطه مع حماس. فيما سبق الأوروبيون (الفرنسيون سياسياً والألمان أمنياً) كل هؤلاء.مشهد كامل يفهمه البعض ولا يفهمه البعض الآخر، ولا سيما في الوسط المسيحي. لكن من يفهمونه ومن لا يفهمونه لا يعرفون كيف يتصرفون معه. فديناميكية حزب الله الأمنية والعسكرية والديبلوماسية والإعلامية التي تظهر نتائجها تدريجياً منذ السابع من أكتوبر لا تواكبها أية ديناميكية سياسية داخلية، سواء مع أقرب المقرّبين كالكتل السنية الحليفة للحزب (كرامي – البعريني – الجماعة)، أو الذين لم تشب مواقفهم شوائب تذكر منذ السابع من أكتوبر مثل جنبلاط. ولا يبذل الحزب أي جهد لـ«تصفير» مشاكل الداخل إن كان حلّها متعذراً، لتبدو ماكينته العسكرية والأمنية والديبلوماسية والإعلامية عملاقاً صخماً مقارنة بماكينته السياسية العادية، من دون أن يتضح ما إذا كان هناك قرار متعمّد بإطفائها.
ربما يقول قائل هنا، ولا سيما في بيئة الحزب، إن الانشغال بإرضاء هذا أو استرضاء ذاك في ظل المتغيرات الإقليمية مضيعة للوقت، وخصوصاً أن المعركة في مكان آخر، فيما تطلب بعض القوى (وخصوصاً المسيحية) ما لا يمكن للحزب أن يعطيه لها اليوم من وقف إطلاق النار في لبنان بمعزل عن غزة (وهو ما توقفت الخارجية الأميركية نفسها عن المطالبة به) إلى انتخاب رئيس للجمهورية.
إلا أن هذا التقدير الذي يأخذ مداه في الأوساط الشيعية لا يشبه حزب الله من قريب أو بعيد، ولا «البصيرة» و«التفكير الاستراتيجي». ففي كل مرحلة، كان هناك ما هو «غير مهمّ» و«مهمّ» و«أهمّ»، وفي كل مرحلة سبقت كان الحزب يسدّ الثغرات على المستويات الثلاثة، علماً أن الجهد السياسي المطلوب ليس كبيراً، ويمكن أن يقتصر على زيارة هنا أو إيعاز هناك، على غرار إيعاز الحزب لمسؤوليه منذ بداية الأزمة مع التيار الوطني الحر بعدم الرد على تصريحات مسؤولي التيار الوطني الحر حتى لا تزداد الأمور صعوبة حين يحين وقت الجلوس مجدداً حول الطاولة، عاجلاً أو آجلاً.
لكن ترك الأمور تتدحرج سلباً، من التيار إلى البطريركية المارونية، مروراً بكثيرين من أصدقاء الحزب في البيئة المسيحية، من وزراء سابقين وفنانين وأبناء بيوتات سياسية، يثير علامات استفهام كثيرة لا أجوبة منطقية أو عقلانية لها.
فتزامناً مع تقويل البطريرك بشارة الراعي ما لم يقصد قوله، بمعزل عن موقفه المعروف من الحرب والمقاومة، كان الحزب يواجه المعضلة نفسها جراء تقويل رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد أيضاً ما لم يقصد قوله، بمعزل عن موقف الحزب المعروف من الرقص والشرب. مع ذلك، لم يلاقِ أحد التوضيحات التي صدرت عن بكركي في منتصف الطريق، علماً أن أكثر من ثمانية أشهر مرّت على دعوة البطريرك لرعد للعشاء في بكركي، عبر النائب إبراهيم كنعان، من دون أن تلبّى بعد، وهي لا تزال قائمة رغم كل ما تخلّل هذه الأشهر الثمانية من توتر.
وفي هذا السياق، يلفت أحد المطارنة الأساسيين إلى أن بعض مواقف البطريرك التي يمكن أن توصف بالسلبية بعد السابع من أكتوبر تبعتها عدة مواقف إيجابية، كان يمكن البناء عليها لتفعيل التواصل، إلا أن ذلك لم يحصل. فيما اللجان المشتركة التي يُفترض أن تستنفر لحل المشاكل حين تقع، يجمّدها الحزب فور حصول أيّ توتر سياسي أو إعلامي.
خلاف حزب الله مع كل الأحزاب المسيحية يبقى سياسياً، لكنه إذا شمل بكركي واليرزة يأخذ على الفور طابعاً مسيحياً – شيعياً
تجدر الإشارة هنا إلى أن من لا يعرفون البطريركية المارونية عن قرب (بمن فيهم الجمهور العوني) يتعاملون مع البطريرك الراعي بوصفه استمرارية سياسية للبطريرك نصر الله صفير. لكن من يعرفون البطريركية والراعي، يعلمون أنه هو من بادر إلى الذهاب إلى دمشق في ذروة الحرب عليها، وهو من «علّق» علاقاته مع «الأمّ الحنون» جراء الموقف الأوروبي في ملف النازحين السوريين ومحاصرة سوريا ورفض الأوروبيين الاعتراف بهزيمتهم في الشام، وهو من «أخّر» إصدار «وثيقة بكركي» حتى لا يصدر عن الصرح في لحظة الحرب وسقوط الشهداء موقف رسمي ضد فريق لبناني. والأهم من هذا كله، ما فعله الراعي على مستوى الإدارة الكنسية حين سلّم الأبرشيات الرئيسية المؤثرة والكبيرة لمطارنة أقلّ ما يقال عنهم إنهم غير معادين للمقاومة ولا مقرّبين من القوات اللبنانية، ما يسمح للصوت الآخر الداعي إلى الحوار والهدوء والتفاهم بالحفاظ على مشروعيته المسيحية رغم كل التخوين والتهويل القواتيين. وعليه، لا ينبغي أن تواجه دعوات الراعي إلى الحوار والنقاش أو حتى العشاء بهذه السلبية، وخصوصاً أن حزب الله وحركة أمل يطالبان بالحوار يومياً، ويعيبان على رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع رفضه الحوار… إلا إذا كان الحزب يعرف أشياء لا يعلنها.
أيّ خلاف بين حزب الله وكلٍّ من القوات اللبنانية أو التيار الوطني الحر أو الكتائب، أو الثلاثة معاً، يمكن أن يبقى في إطار سياسي مهما تفاقم، لكن الخلاف مع هؤلاء وبكركي وقيادة الجيش في الوقت نفسه، يأخذ على الفور طابعاً مسيحياً – شيعياً، مع ما لذلك من انعكاسات سلبية في المدارس والمعاهد والمستشفيات والجامعات وأماكن العمل والبلدات المختلطة والقرى المتجاورة وغيرها من المساحات المشتركة. وهو ما يمكن التعايش معه أو تحمّل تبعاته لو كانت المعركة تفرض ذلك. لكن الأمر لا يتعدّى كونه ثُغَراً داخلية يسمح الحزب بتوسيعها، على نحو لا يفيد أحداً غير سمير جعجع. وهنا، ينبغي الأخذ في الحسبان أن الضرر الحاصل على المستوى المسيحي دفع بأبناء بيوتات سياسية صديقة للحزب، لا تخشى على شعبيتها من الموجات العابرة، إلى إصدار مواقف تضامنية مع بكركي.
مع العلم أن الغموض الذي يحيط أداء الحزب على هذا المستوى وعدم وجود تفسيرات منطقية لدى المقرّبين منه تفاقم حيرة هؤلاء وتوصلهم إلى أفكار «مؤامراتية» غريبة. وفي حال كان هذا كله مؤقتاً وستعود الاتصالات السياسية لتأخذ مداها مستقبلاً كما هو متوقع، فإن ما يحصل يترك ندوباً مؤثرة، حتى ولو كان الحزب يعتبر أنه في موقع المعتدى عليه، إذ كان يفترض بالقوى السياسية والروحية أن تقدر تضحيات مجاهديه وتدعمه من دون «ولكن». إذ سيترسخ في الذاكرة الجماعية لهؤلاء أن الحزب في لحظة عزله شيء، وفي لحظة الاعتراف الإقليمي والدولي بقوته ونفوذه شيء آخر، فيما الحقيقة على الأرجح غير ذلك تماماً، لكن «عدم التواصل» لا يترك على الطاولة غير هذه الأفكار.
وعليه، في حال كانت لدى الحزب نية بالمعالجة، لا بدّ من لحظ عاملين أساسيين عند إعداد خريطة طريق جديدة للعلاقة مع بكركي، وهما:
أولاً، رغم أن الأصدقاء المشتركين بين الحزب وبكركي شرحوا مراراً للبطريركية بأن المسؤول في حزب الله الذي يُكلّف بمتابعة ملفّ ما هو عادةً أهم من وزير أو نائب ومن الشخصيات المعروفة إعلامياً، لا تزال بكركي تتطلّع إلى تواصل أعلى من المستوى المعمول به منذ سنوات، يُشعر سيّد الصرح بأنه ليس مجرد شخصية دينية في «ملف رجال الدين المسيحيين».
ثانياً، تعامل البطريرك مع موقعه كأكثر من مجرد رئيس روحي لطائفة كبيرة، يفترض أن يشمل النقاش معه القضايا السياسية لا «شؤون الرعية» الروحية. أضف إلى ذلك أن رفع البطريرك الصوت مراراً بشأن القرى الحدودية المسيحية كان ولا يزال يمثل فرصة لعمل مشترك بين فعاليات البلدات الحدودية، برعاية بكركي والحزب والوزارات المعنية، يقطع الطريق على من يريدون توسيع الهوّة من جهة، ويعزّز دور المجالس البلدية وآباء الكنائس في تلك القرى من جهة أخرى.
من التيار إلى البطريركية المارونية، فالبطريركيات الأخرى التي لم يترجم الحزب العلاقات الإيجابية المفترضة معها، إلى أصدقاء الحزب المسيحيين الذين تقول مصادره إنها تعزّز منذ أشهر آليات التعاون معهم دون أن تظهر أيّ نتائج إيجابية لذلك، ومع انتقال وزراء سابقين ونواب حاليين وفنانين ومسؤولين سابقين في أحزاب صديقة للحزب من ضفة التأييد المطلق إلى ضفة الانتقاد اللاذع، لا ينبغي أن يترك الأمر للجمهور الافتراضي للحزب، بل أن يسارع الأخير إلى فهم الأسباب والمعالجة.
في الحرب يزداد التوتر والانفعال، وتزداد في المقابل أهمية الهدوء وتجنب المعارك الجانبية غير اللازمة التي يمكن تأجيلها أو حلّها حبياً. ولا شك في أن إضافة التفاهم الوطني (مع من يمكن التفاهم معهم) إلى التناغم الشيعي – السني – الدرزي الحاصل والمشهدين الإقليمي والدولي، هو مكسب آخر لحزب الله، وخسارة أخرى لكل من يواصل الرهان على توسيع الثّغَر الطائفية لإيجاد موطئ قدم لمشاريعه التصادمية في لبنان.