كتب د طلال حاطوم في “الجمهورية”:
ستة واربعون عاماً على التغييب القسري للامام السيد موسى الصدر في ليبيا ولا يزال فكره وطروحاته حاضرة في غمرة الاحداث اللبنانية والعربية والدولية، ولا يزال مشروعه الوطني للبنان الوطن والدولة هو ما ينشده من عرفوا الامام الصدر وعايشوه عن قرب، وفقهوا رؤيته ورؤياه حول لبنان ومواطنيه.
في مناسبة الذكرى 46 للتغييب، وبعيداً عن عاطفة مشوبة بألم الغياب تحرق وجداننا والقلوب، ننحى باتجاه تظهير فكرة بناء الدولة المدنية القوية القادرة والعادلة التي ارادها الامام الصدر لتكون بديلاً للمزرعة ومحاولات تحديد الكيان على اسس طائفية او مناطقية، الدولة التي تنظم علاقات ابناء وطن نهائي لجميع ابنائه دونما تمييز او تفرقة، الدولة التي تحكم بالعدل والمساواة وتحقق الانماء المتوازن للمناطق كلها.
الامام الصدر يؤمن بأن بداية التغيير في مفهوم الدولة والسعي لمشروعها تبدأ من تأسيس تيار اجتماعي عابر للطوائف والمذاهب والأحزاب دارياً بأسباب القلق عند الاطراف اللبنانية جميعها، وساعياً لمعالجتها وازالتها، مع ايمانه بأنه لا يمكن إحداث إصلاح في النظام السياسي من خلال الطائفية أو الثنائية الطائفية، فكانت حركته التي اسماها يومها “حركة المحرومين”، ومنها انبثقت افواج المقاومة اللبنانية “أمل”، لتشكل صلة الوصل بين اطياف المكونات اللبنانية وتكون (حركة اللبناني نحو الافضل) كما ورد في ميثاق حركة امل.
ولأن الدين بجوهره واحد، والإنسان هو القاسم بين هذه الأديان، ما يجعل أما اللبنانيين فرصة، لإبراز القيم المشتركة بين هذه الديانات. هدف كافة الأديان، هنا التقى الامام الصدر باعطائه الاولوية للحوار، واسقاط لغة التحدي في العلاقات بين الطوائف، مع المطران غريغوار حداد والمطران جورج خضر والدكتور حسن صعب والاب يواكيم مبارك وغيرهم كثيرون ممن رأوا في حركة الامام الصدر المنفتحة على الاخر وسيلة نجاة وخلاص مما كان يغرق به لبنان من حروب قبائل وطوائف.
ولأن الامام الصدر كان يُعرِّف وطنه لبنان ودوره في المنطقة والعالم لأن “لبنان الوطن الصغير يمكن أن يصبح مصدر الشر والأخطار، وأن يقض المضاجع”، ما يفرض بالضرورة الإيمان بأن “التمسك بوحدة لبنان وانسجامه مع المنطقة وصيانته كونه أمانة للحضارة العالمية”.
واكثر؛ لبنان هو “رسالة للعالم” عن مفهوم العيش المشترك والتنوع الذي يغني الجماعة والمجتمع، وهو على هذا الاساس سعى لبناء الوحدة الوطنية من القاعدة باعتباره ان كل المواطنين سواسية في دولة القانون، وكل المحرومين هم مواطنون على اتساع مساحة الوطن لهم حق على دولتهم مهما كانت انتماءاتهم، رابطاً بأن قاعدة المواطنة تكمن في تعزيز فكرة الدولة كملجأ لجميع اللبنانيين ما يجعل من مشروع بناء الدولة معياراً ومقياساً للوحدة والتضامن الوطني.
رؤيتة الامام الصدر الواضحة والعارفة والمستشرفة لخطر الكيان الإسرائيلي الذي نقيض لبنان، وهو عدو جميع اللبنانيين وأبناء المنطقة، ساهمت في بلورة فكرته حول الدولة التي تعتبر لبنان جزءاً من محيطه العربي وهواجسه ومشاكله، بحيث تحمي حدودها من المشاريع الاسرائيلية، وتصون المقاومة، الدولة التي تدعم الجيش اللبناني كونه اداة تحقيق وضمانة الوحدة الوطنية. والمقاومة التي تُشكَّل خيار للبنانيين والأمة في مواجهة هذا الكيان.
الامام الصدر في ورقته الاصلاحية التي طرحها للنقاش في العام 1977، ودعا كل الاطراف الى قراءتها وتقديم مقترحاته حول رؤيتهم للبنان الدولة والتحاور حولها لايجاد الارضيات المشتركة التي تؤسس لانطلاقة متينة مبنية على توافق بين المكونات نحو اعادة بناء المؤسسات على اسس ومفاهيم تتواءم مع طروحات كل الاطراف التي تهدف الى خلاص لبنان وتحديث نموذج الحكم فيه لاخراجه من المحسوبيات نحو الكفاءات والعمل الجاد لمؤسساته في سبيل الافضل، في هذه الورقة طرح الامام الصدر جملة عناوين كانت (ترويستها) انها ليست (منزّلة) ولا يمكن فرضها على الشركاء في الوطن، بل هي قاعدة لللحوار والنقاش بدلاً من الاقتتال الذي لا خير فيه، ولا يسبب الا المزيد من الالام والدمار والخراب في الوطن، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، ما اتفق عيه اللبنانيون بعد 15 سنة في اتفاق الطائف وتحول الى جزء من الدستور اللبناني، واصر الامام الصدر على ايراد انه:
(“بهذه الروح نطرح الخطوط الكبرى للإصلاح الذي نرتأيه، كورقة عمل في الحوار المرتقب. ونحن، إذ نعلن عن استعدادنا لمناقشة أي بند من هذه البنود، ولوضع دراساتنا بتصرف المسؤولين، نؤكد سلفاً أمرين أساسيين:
الأول: إن هذه النقاط عامة يحتاج كل منها إلى توضيح وتفصيل من قبل رجال الاختصاص في كل بند.
والثاني: أننا مستعدون للقبول بأي اقتراح في هذه المجالات تتفق عليه أغلبية اللبنانيين.”)
وجاء في الورقة الاصلاحية (ننقله بحرفيته):
(“في مقابل ما يطرح من الأفكار، وما يتخذ من المواقف من قبل مختلف الهيئات والتجمعات الطائفية والسياسية في سبيل بناء لبنان الجديد، وشعوراً بمسؤوليتها التاريخية في هذا المنعطف الخطير من حياة لبنان، بل المصيري في حياة المنطقة بأسرها، وتلبية لواجب المساهمة في إنهاض الوطن والحفاظ على استقلاله وسيادته ووحدة أرضه وشعبه، وانسجاماً مع مواقفها الدائمة في خدمة المصلحة العامة، وتحقيقاً لمطامح الأجيال الصاعدة نجدد إيماننا بلبنان الواحد الموحد:
• وطناً نهائياً بحدوده الحاضرة سيداً حراً مستقلاً.
• عربياً في محيطه وواقعه ومصيره، يلتزم التزاماً كلياً بالقضايا العربية المصيرية، وفي طليعتها قضية فلسطين.
• منفتحاً على العالم بأسره، يلتزم بقضية الإنسان لأنها من صلب رسالتنا الحضارية.
• جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على إحترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى مبدأ فصل السلطات، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين في نظام اقتصادي حر مبرمج، ووفق تخطيط علمي إنمائي شامل لمختلف الطاقات والاحتياجات والنشاطات في جميع المضامير، بلد الكرامة الإنسانية والطموح الحضاري.
فيما لا يمكن القبول به:
• أننا نرفض رفضاً باتاً أية صورة من صور التقسيم تحت ستار لا مركزية سياسية أياً كانت هيكليتها، وعلى العكس نرحب بأية صيغة للامركزية الإدارية التي من شأنها تعزيز الحكم المسؤول في المناطق واختصار المعاملات الروتينية، وتقريب القضاء من المتقاضين، واشراك الهيئات الشعبية والبلدية ومجلس المحافظات في إدارة الشؤون المحلية.
• التوطين: أن توطين الفلسطينيين في أي جزء من لبنان، بأي شكل من أشكال التوطين مرفوض رفضاً قاطعاً. مع التأكيد على الالتزام بالعمل لاستعادة الشعب الفلسطيني حقه في وطنه في نطاق سيادة لبنان الوطنية وسمعته الإقليمية.
• تشويه وجه لبنان الحضاري بتحطيم دوريه العربي والدولي، أو بقطعه عن المد الحضاري الإنساني.
في السياسة:
• إلغاء الطائفية السياسية في جميع مرافق الحياة العامة.
• اعتماد الاستفتاء الشعبي في القضايا المصيرية.
• تشكيل المجلس الاقتصادي الاجتماعي، أو مجلس الشيوخ أو كليهما.
• تعديل قانون الانتخابات النيابية على أساس جعل لبنان كله دائرة انتخابية واحدة.”)
الورقة الاصلاحية تضمنت مقترحات الاصلاح في الثقافة والتربية والاعلام والادراة والدفاع الوطني والبيئة وغيرها من العناوين التي رأى فيها الامام الصدر سبيلاً لبناء الدولة الحديثة، والتي لا يزال يحملها دولة رئيس مجلس النواب رئيس حركة امل الاستاذ نبيه بري الى كل منبر ومنتدى (حتى في مؤتمرات حركة امل)، متخذاً الحوار وسيلة للاتفاق بين اللبنانيين جميعهم، وداعياً الى العبور من الاوطان الى الوطن، والى الدولة التي تبقى هي المنتهى.
وبعد، غيض من فيض الامام الصدر، ليت اللبنانين يعودون اليه ليروا ان مستقبل الوطن بني على اعمدة نحتها الامام السيد موسى الصدر لتكون منارة للبنان الغد.