الاتكاء على موقف.. وحده طريق الخلاص!
| رندلى جبور |
في العلاقات الإنسانية، كما المجتمعية والسياسية والدولية، تبدو المصالح هي المدماك الذي يُبنى عليه كل شيء.
ولكن ماذا لو استبدلنا المصالح بالمواقف الحرّة والثابتة والصائبة والصادقة، بلا خوف، ومهما كانت الأثمان التي ستكون أهون من اللاموقف؟
فلو اتخذ القضاة في لبنان، مثلاً، بالتكافل والتضامن، موقفاً في قضية الإصلاح ومحاربة الفساد، لكانت وُلدت لنا دولة سَوية بالأحكام القضائية، ولكان الفاسدون في السجون. لم يتّخذوا هذا الموقف من أجل المنصب “الموهوب” من المنظومة، وتركوا غادة عون وحيدة ورياض سلامة وشركاءه أحراراً.
ولو اتخذت الدولة مجتمعة، موقفاً حاسماً وحقيقياً لإعادة النازحين السوريين، لما كانت أوروبا ومعها المجتمع الدولي لتبقيهم عبئاً في وطننا وورقة تستثمر بها عند المصلحة. لقد باعوا الموقف خوفاً على “البيزنس”، وتركوا “التيار الوطني الحر” وحيداً واللاجئين “جوّا جوّا”.
ولو اتخذت الأحزاب كلها موقفاً قاطعاً لانتخاب رئيس، لما بقينا في الفراغ القاتل طيلة هذه المدة. لقد باعوا الموقف في انتظار تحقيق مصلحة ضيّقة، وتركوا كرسي الرئاسة شاغراً ووحده الصدى يخرج من بعبدا.
ولو اتخذ المسيحيون معاً موقفاً صارماً للحفاظ على الشراكة ومنع التعدي على حقوقهم ودورهم وحضورهم، لما كان نجيب ميقاتي و”صَحبه” ليُصدروا القرارات اللا شرعية ويعتدون على أي صلاحية. لقد باعوا الموقف لانعدام رؤيتهم وتركوا العونيين يصرخون وحيدين.
ولو اتخذ المسيحيون موقفاً بالوقوف إلى جانب الرئيس القوي، لما حصلت كل هذه العرقلة، ولا تجرأ أحد على محاولة الانقلاب على المحاولة الاصلاحية. لقد باعوا الموقف بالنكايات الشخصية وأوامر السفارات “العَلِيَّة”، وتركوا ميشال عون وحيداً.
ولو اتخذ اللبنانيون موقفاً في وجه سياسات الريع، لما انهار اقتصادنا وفرغت جيوبنا. لقد باعوا الموقف مقابل فوائد آنية تبخّرت كلها بعد حين.
ولو وقف الجميع إلى جانب المقاومة وما تآمروا عليها، لكانت قوة الردع تحصّنت أكثر ولما تجرأت “إسرائيل” على ارتكاب ثلاثين ألف اعتداء على وطننا منذ العام 2006. لقد باعوا الموقف توهماً خادعاً من “ولاية الفقيه” و”السيطرة الإيرانية”، وتركوا المقاومة شبه وحيدة.
ولو اتخذ النواب موقفاً قبل الذهاب إلى الطائف، لما انتقلت حرب الطوائف إلى النصوص، وانتصر من انتصر وانكسر من انكسر. لقد باعوا الموقف بقبولهم مصادرة حريتهم، وتركوا الأحرار يذهبون إلى منافيهم، والوطن إلى إذلاله المستمر.
ولو اتخذ الناخبون موقفاً ضد المنظومة قبل كل ذهاب إلى صناديق الاقتراع، لما كانت تحكمت بنا تلك المنظومة عقوداً حتى الانهيار. لقد باعوا الموقف بـ”بونات” بنزين وتركوا من أرادوهم أخياراً وحيدين.
ولو اتخذ الافرقاء اللبنانيون موقفاً إلى جانب كل من يتعرض لمحاولات العزل أو التطويق أو الشيطنة، لما كانت الدول اتخذتهم بالمفرق، وسُجن من سُجن ونُفي من نُفي وقُتل من قُتل وحورب من حورب وعوقب من عوقب واختفى من اختفى عن الحياة السياسية. لقد باعوا الموقف بالتعصب الغبي.
ولو اتخذنا مواقف جامعة وصادقة في قضايا التجنيس وخطط البنى التحتية والقطاعات الانتاجية والتنقيب عن النفط والغاز والوطنية وغيرها وغيرها… ولو اتخذنا مواقف صادقة إلى جانب الشرفاء في مواجهة النصابين والبياعين، لكنّا في مكان آخر.
وقيسوا على ذلك… من فلسطين وغياب موقف العرب الذي أدى إلى بيعها، والعراق وغياب الموقف المانع للاحتلال، وسوريا وغياب الموقف الذي يدرأ الحرب، ومصر وغياب الموقف الذي أخذها إلى التطبيع ولم يأخذها إلى الازدهار، والمسلمين وغياب الموقف الجامع ضد الجماعات المتطرفة المنتحلة صفة الاسلام فولدت “الاسلاموفوبيا”، والمسيحيين وغياب الموقف الذي لو وجد لما كان تهجر مسيحي واحد أو جاع أو صار غير قادر على الاستشفاء والتعليم والعيش الكريم.
وهكذا على امتداد الخريطة.
كل ما نحتاجه للخلاص والانقاذ هو الموقف.
وإذا كان الهروب من الموقف أهون في المدى القريب، إلا أنه قاتل بعد قليل.
وإذا ما أرادت أي دولة التحالف مع أخرى، فلتفكر إذا ما كانت ستتكئ على موقف.
فحين تقع في محنة، هي لا تحتاج لأكثر من ذلك.
ومتى رأت أنها لن تتكئ على موقف فلتبقى واقفة وحيدة، فهذا أكثر شرفاً وكرامة وقوة.
وهكذا في الحياة الفردية، إذا ما أردت بناء أي علاقة، فكّر فقط في ما إذا كنت ستتكئ على موقف.
فأنت لا تحتاج لا الكتف ولا الظهر، بل الكلمة الصادقة والموقف الثابت!