«الآخَرون» في «حُروبِنا» الداخلية .. ضيّعنا أين نحنُ وأين هُم؟

«الآخَرون» في «حُروبِنا» الداخلية .. ضيّعنا أين نحنُ وأين هُم؟

كتب عبد الغني طليس في “اللواء”:

تعودُ مقولة «حرب الآخَرين على أرضنا» إلى التداول من أعلى المنابر اللبنانية في محاولة لتثبيتِها كمدخل ومضمون ونقطةَ ارتكاز أساسية لبحث ما جرى ويجري في البلد من قديم الزمان اليائس إلى الحاضر البائس. دعنا من القديم ومن التفاصيل الجزئية وليكن التركيز على الأساس. لنبدأ من ١٩٥٨ زمن الرئيس كميل شمعون حتى ٢٠٢٥ زمن ما قبل وصول الرئيس جوزف عون إلى القصر الجمهوري. ينفُض اللبناني، نفسَه من المسؤولية التاريخية الجديّة، عبر تحميل هشاشةِ الواقع اللبناني كله لآخَرين وَجدوا فيه أرضاً خصبة لحروبهم، من دون أن تكون له، أي لِلّبناني، يد أو إرادة في ذلك.

فإذا كانت البداية من ١٩٥٨، فقد انقسم البلد بين حلف بغداد «الأميركي» و»حلف» الرئيس المصري جمال عبد الناصر. عاملان رئيسيان خارجيّان لكن الداخل اللبناني انقاد منقسماً أفقياً وعامودياً إلى الحِلْفَين: الرئيسُ شمعون وزعماء مسيحيون إلى «حلف بغداد»، وزعماء مسلمون إلى رأي عبد الناصر. تأثَّر اللبنانيون عميقاً بالتوجّهَين وتفرّقوا بشأنهما، وحمَلوا السلاح « البدائي» تجاه بعضهما البعض، استناداً إلى ما يراه كل طرف داخلي، لمصلحتِه ووفق قناعاته السياسية، فحدثت ما سمّيت ثورة ٥٨. إنها أفكار «الآخَرين»التي تلاقت مع أفكارنا لتُتَرجَم حرباً بين الناس، ناسِنا، والأهل، أهلِنا.هي حربنا إذن، نحن، بأدواتنا نحن وأفكارنا نحن، وخسائرنا نحن وبأيدينا نحن. فكيف تكون هذه حربَ الآخَرين إلا في العناوين، وماذا ينقصها لنسمّيها حربنا المباشَرة « الأولى» بعد الاستقلال، إلا التنصل المعروف أن اللبنانيين شغوفون به كمعزوفة ناكتة؟

نعبر السنين لنصل إلى ١٩٧٥. قائد الثورة الفلسطينية ياسر عرفات، بعدما تحصّن في لبنان، جنوباً حتى بيروت وبعض مناطق البلد، رأى مناسباً أن يسيطر على الأرض اللبنانية دفاعاً عن أرض فلسطين. حتى الآن هي حرب «الآخَرين»- الفلسطينيين. لكن وقوف نصف اللبنانيين في «الحركة الوطنية»إلى جانب الثورة الفلسطينية دفاعاً عن شرعية أهدافها ومدفوعين بالأمل، من خلفها، في تغيير واقع النظام اللبناني ذي الامتيازات لطائفة دون بقية الطوائف، خوّف النصف الآخَر في النصف الثاني من البلد بقيادة «الجبهة اللبنانية» الذي وقف ضد مشروع «الحركة الوطنية» ومشروع ياسر عرفات معاً. وحدثت «حرب السنتين» أولاً بين لبنانيين وفلسطينيين في «خندق واحد»، وبين لبنانيين مسيحيين في جهة ثانية. فوُجدت خطوط التماس في العاصمة بيروت ومحيطها قبل أن تنتشر إلى مناطق أخرى، ودارت معارك طاحنة بين الطرفين المذكورين. الفلسطيني هنا هو الآخَر أما الباقون فلبنانيون ذوو أصلاب. فماذا ينقص هذه الحرب التي ذهب إليها الداخل اللبناني بأقدامه وعنفوانه لتكون حربنا نحن مع حرب الآخرين؟

وإذا كانت الحركة الوطنية تسلّحت بالآخَرين الفلسطينيين، فماذا نقول عن المسيحيين الذين تراكضوا نحو سوريا حافظ الأسد لحماية أنفسهم وبلدهم بعدما هددت «الحركة الوطنية» والثورة الفلسطينية بالنزول من عيون السيمان إلى جونيه؟ ألا يعني ذلك أن اللبنانيين الذين وقفوا ظهيراً للآخَرين الفلسطينيين، كان في مقابلهم لبنانيون طلبوا «الخارج الآخَر» السوري ظهيراً.. هذا قبل أن تنتكس العلاقة مع السوري ويذهب كميل شمعون وبشير الجميل إلى إسرائيل ويتم تدريب وتسليح عناصر الأحزاب المسيحية ويرتفع التعامل إلى أقصى حدوده بالاستفادة الكاملة من اجتياح الجيش الإسرائيلي للبنان ٢٩٨٢ ووصوله إلى بيروت، وتنصيب رئيسي جمهورية بلمح البصر. فالآخَر الإسرائيلي «الخارجي» استُقدم للتخلص من الفلسطينيين في لبنان. فهل هذا كلّه، بقضّه وقضيضه وجيوشه وميليشياته يُعتبَر حرب الآخَرين، واللبنانيون يا حرام لا دَخْل لهم بشيء؟

وتمرّ سنوات سبعٌ عِجاف من ١٩٨٣ حتى ١٩٩٠ حين كانت الحروب الداخلية المحضة، مع رَشّة خارجية إسرائيلية وسورية وبقايا فلسطينية، تملأ الساحة اللبنانية كمساحة مهيّأة لنفوذ من هناك ومحاولات تزَعُّم من هنا وتجارب سيطرة على الأرض. «حزب الله» بمرجعيةِ إيران تَقاتَل بلا هوادة مع « حركة امل» بمرجعية سورية. القوات قاتلت القوات مرات عدة في ما سُمي حرب الإخوة بمرجعية إسرائيلية وشخصية، ثم تسيّدَت القواتُ السلطة في الشوف اللبناني (الدرزي) خلال الاجتياح الإسرائيلي، وجنحت إلى العنجهية على سكان الجبَل الذين انتظروا اللحظة المؤاتية بانسحاب إسرائيلي من الشوف وعادوا فثأروا من القوات ومن المواطنين بمساعدة سورية وفلسطينية في حرب لم تُبقِ ولم تذَر. وفي بيروت اشتبكت القوى المحلية ببعضها وروّعت العاصمة مرات. جيش العماد ميشال عون قاتل الجيش السوري بخلفية تسلُّح من عراق صدّام حسين، ثمّ قاتل القوات في أعنف مواجهات. إلى أن جاء إتفاق الطائف المكتوب بحبر الدم في حروبنا وحروب الآخرين.. تحديداً الآخَرين الذين رأينا منهم فائدة لنا.

برزت قضية مقاومة إسرائيل ١٩٨٤ بخلفية محض شعبية لبنانية (وإسرائيل كانت من الخارج لكنْ في الداخل) عَبْر اللحم العاري الذي جاهدَت به حركة أمل وأهل الجنوب في القرى والبلدات التي احتلها الجيش الإسرائيلي مباشرةً، أو مداورة عبر جيش لحد، وكانت لفصائل قليلة من الحركة الوطنية (مموّلة من دوَل عربية) مكانة ابتدائية ومؤثّرة ونوعية في مواجهة إسرائيل. وتابعَت مقاومة « حزب الله» بعد ١٩٨٥ بخلفيةٍ دينيةٍ إيرانيةِ «الانتماء الثوري» والتمويل، محلّية الهدف بدورها الكبير حتى اندحر جيش إسرائيل عام ٢٠٠٠ بفضل شهدائها وجرحاها والسيرة البطولية لأهلها.

احتفظَت المقاومة بسلاحها الذي حرّرت به الأرض على اعتبار أن الأخطار الإسرائيلية بالعودة إلى لبنان لا زالت قائمة، في وقت كانت إيران محاطة بعقوبات دولية بسبب مشروعها النووي «غير المقبول» إسرائيلياً وأميركياً، فرأت إيران أنها تستطيع بسلاح «حزب الله» أن تشكّل عامل قوة لها، وضغطٍ على إسرائيل فلا تتجرّأ على ضربها الذي هدّدت به مراراً، لكَون الحزب سينتصر لها. وجاءت عملية « طوفان الأقصى» وفي أعقابها مباشرةً حرب إسناد غزة من «الجبهة» اللبنانية، وكلنا نعرف النتيجة التي آلَت إليها الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان من دمار وخراب بعدما قفز نتنياهو فوق القوانين والأعراف الدولية للحروب، ومارسَ الإجرام الموصوف تلمودياً. ماذا يعني هذا؟ حرب الآخَرين إسرائيل وإيران وغزّة، وحربنا الداخلية «المكتومة» بين الشيعة وبقية الطوائف.

ملخّص «القصة»: نحنُ نأتي بالآخَرين إلى أرضنا، فيمسكون بالزمام ويتحركون بحرّية مادياً ومعنوياً، فنصبح نحن تابعين لهم، لا هم تابعين لنا ! إذن، هي حروبنا.

وهل ينبغي أن أكون وقحاً لأسأل أليست حروب الآخَرين .. أكرر حروب الآخَرين.. الآخَرين على أرضنا هي التي أنجبت رؤساء جمهوريتنا من بشير الجميّل وأمين الجميل إلى رينيه معوّض والياس الهراوي وإميل لحود وميشال سليمان وميشال عون، وصولاً إلى الرئيس الحالي العماد جوزف عون؟ودائماً كان هناك من يوقّع على المشيئة الخارجية بعد حرب عسكرية أو سياسية، سواء كان الرابح هذا أم ذاك من الداخل!

فإذا سألتَ اليوم ياسر عرفات «لماذا فعلتَ هكذا في لبنان؟» فسيقول «رأيت ألّا وجود لدولةٍ حقيقية فقلتُ أستفيدُ من أجل قضيتي»! وإذا سألتَ «الجبهة اللبنانية»: «لماذا أدخلتِ سوريا حافظ الأسد إلى البلد؟» ستجيبُ «لم تكن هناك دولة قوية ولا جيش قادر فأردتُ حماية شعبي»! وإذا سألتَ بشير الجميّل «لماذا تعاملتَ مع الإسرائيلي؟» سيردّ «لكي أرد عن المسيحيين، في غياب دولة وجيش يدافعان عنهم»! وإذا سألتَ حركة أمل والحزب التقدمي وبعض القوى السياسية «لماذا سلّمتم الأمور كلها للسوري؟» سيجيبون «لنحمي جماعاتنا، فالدولة مُنهارة، والجيش كان منحازاً ومتهالكاً»! وإذا سألتَ حزب الله «لماذا أتيتَ بالإيراني؟»، سيجيب «لا دولة ولا جيش مقتدر عندنا فحميتُ الشيعة وحرّرتهم وحميتُ إيران في آن معاً»! وإذا سألتَ فرقاء وازنون اليوم على اختلاف رؤاهم ومشاربهم السياسية «لماذا أدخلتم الأميركي إلى صُلب القرار الداخلي اللبناني»؟ سيجيبون «ضاعت الدولة فقررنا أن نُبعِد عنّا الهيمنة الإيرانية عبر القبضة الأميركية»! وإذا ذهبتَ أعمق وسألت بعضهم» لماذا راهنتم على إسرائيل؟» سيجيبون « لنتخلّص من حزب الله في غياب دولة سيادية تُخلّصنا منه»!

المعنى بوضوح: اللبناني هو الذي يأتي بالآخَرين ليستقوي بهم على أبناء بلده.

وكل اللبنانيين شاركوا إلى أعناقهم في طلَب المساعدة من الآخَرين. والآخرون، هناك آخَرون غيرهم يناصبونهم العداء وينتظرون الفرصة لينقضّوا عليهم بمعاونة لبنانيين آخَرين. فالآخَرون هم اللبنانيون أنفسُهم أولاً قبل أن يكونوا دوَلاً لها مصالح وتريد نفوذاً وتدفع أموالاً طائلة وبأرقام خيالية أحيانا لتقلب الوضع برمّته إذا استطاعت. وكلّ اللبنانيين استطاعوا، كلٌّ في مرحلة، الفوز بنَصير خارجي قوّاهم على سواهم في الداخل. وبعد كل الذي حصل، هل لنا عين للقول «حروب الآخَرين»، وهي حروبنا والآخَرون معنا!

أصِل إلى سبب العُطب الوطني الجاذب لكل هذا الخليط العربي والأعجمي والدولي. أنه انحلال الدولة بمؤسساتها كافةً، و»حيطها الواطي»داخلياً وخارجياً جرّأَ عليها وعلى أهلها، القريبَ والبعيدَ، بحيث باتوا جميعاً مُخطِّطين ومقرّرين، وما علينا سوى التنفيذ!

لكنْ هل نتعلّم؟
سنرى «الآخَرين» الذين بين ظهرانينا اليوم إلى أين يمكن أن يقودوننا: إلى الخلاص ببناء دولة فعلية ونظام سياسي عادل لكل فئات الشعب، وجيش يحمي البلد من كل عدوان، أم إلى «استقواء» جديد يمهّد الأرضَ لآخَرين بعدهُم. ففي لبنان لا تُصرَف مقالات وتحاليل وتمنيات قَدْرَ ما يُصرَف مع بداية كل عهد رئاسي جديد، ثم ينقلبون عليه عند عدم تلبية المصالح، والنتيجة هي:

أهلُ السيادةِ دوّارين مِنْ بلدٍ
إلى حِمى بلدٍ، في بهجةِ الخَدَمِ.

Exit mobile version