الاخبار الرئيسيةمقالات

استراتيجية الأسْرَلة… هكذا وقع الأكراد في الشّرك

الاخبار - وليد شرارة

«نحن حلفاء أميركا الأكثر إخلاصاً في سوريا. لا تنسونا». يعكس هذا العنوان، الذي اختاره مظلوم عبدي، قائد «قوات سوريا الديموقراطية»، لمقاله المنشور في «واشنطن بوست» بتاريخ 3 من الشهر الحالي، المنطق العميق الذي بات يحكم الخيارات الإستراتيجية لقيادات التنظيمات السياسية التي تدّعي تمثيل الأكراد في سوريا والعراق وإيران وتركيا. لا ريب في أن خيار التحوّل إلى قوة وكيلة للتحالف الأميركي – الغربي – الإسرائيلي، تشارك في حروبه المتصاعدة، الحامية أو الهجينة، ضدّ بلدان الإقليم، في مقابل دعمه لتوجّهاتها الانفصالية، لا يلقى إجماعاً البتّة في أوساط الرأي العام الكردي ونخبه السياسية والثقافية. قطاعات معتبرة منهم تعارض مثل هذا الخيار الانتحاري لأنه سيضع الأكراد في مواجهة بقية شعوب المنطقة، وليس الأنظمة السياسية فحسب، ولأنه يضرب عرض الحائط بوشائج الأخوة التاريخية والثقافية – الاجتماعية التي تجمع بينهم وبين هذه الشعوب. إضافة إلى ذلك، هناك الكثير من المعطيات عن وجود خلافات داخل بعض الأحزاب السياسية المشار إليها سابقاً – «حزب العمال الكردستاني» على سبيل المثال -، حول وجاهة خيار الاندراج في إستراتيجية الغرب ضدّ المنطقة، أي أداء وظيفة مطابقة لتلك التي أقيم لأجلها الكيان الصهيوني، انطلاقاً من اعتبارات واقعية في الأساس تذكّر بأن الوجود العسكري الغربي فيها محكوم بالزوال مهما طال أمده، على عكس دول وشعوب المنطقة الباقية على رغم الأزمات التي تعصف بها راهناً.

من المفترض أن يدفع إدراك حقائق التاريخ والجغرافيا، القوى السياسية الحريصة فعلاً على مصالح الشعب الكردي، إلى البحث عن تسويات وتوافقات مع بلدان المنطقة تضمن حقوق هذا الشعب، وتزيل جميع المظالم وأشكال التمييز التي تعرّض لها، من دون تهديد وحدة الكيانات الوطنية القائمة. فعلى الرغم من اختلاف طبيعة أنظمة الحكم في بلدان كسوريا والعراق وإيران وتركيا، ومن الخلافات وحتى الصراعات التي تدور أحياناً بين بعضها البعض، ترسّخت قناعة في أوساط قياداتها ورأيها العام، بأن الغرب أصبح يعتمد «الورقة الكردية» كوسيلة رئيسة من وسائل زعزعة استقرارها وتهديد وحدتها الترابية. لا يعني الكلام المتقدّم رفع المسؤولية عن الأنظمة المتعاقبة في الإقليم عمّا عاناه الأكراد من اضطهاد وتنكيل في حالات عديدة، لكن النقاش ينبغي أن يتمحور حول كيفية توفير الشروط اللازمة لحلول جذرية دائمة تسمح بتغيير الواقع القائم. أمّا الخيار الآخر، أي الاستزلام للغرب المنحدر، والذي تأخذ به التنظيمات الكردية المسلّحة في البلدان الـ4 المشار إليها، فإنه كفيل بتأجيج النزاع بينها وبين هذه البلدان، وحمْل الأخيرة على المزيد من التعاون في ما بينها، للتصدّي لسياسة التخريب والتدمير الغربية وتصفية أدواتها، مع ما قد يترتّب على ذلك من أثمان تدفعها الشعوب، بما فيها الشعب الكردي.

مَن يراهن على «الوفاء» الأميركي مقابل ما قدّمه من خدمات، سيندم ولو بعد حين


فكرة استغلال التناقضات الإثنية والطائفية في المنطقة لإضعاف دولها المركزية بعد الاستقلالات، إسرائيلية في الأساس، ومثّلت جزءاً لا يتجزّأ من «الاستراتيجية الطرفية» التي اتّبعها الكيان الصهيوني منذ خمسينيات وستينيات القرن الماضي، والمرتكزة على السعي للتحالف مع دول الجوار غير العربية، ومع من صنّفهم «أقليات» في داخل البلدان العربية. يشير الصحافي الأميركي، جوناثان رندال، في كتابه الهام «أمّة في شقاق»، إلى أن إسرائيل أقامت علاقات في بداية الستينيات مع الملا مصطفى البرزاني، رئيس «الحزب الديموقراطي الكردستاني»، وقدّمت له دعماً عسكرياً ومالياً كبيراً مع انفجار النزاع بين قواته وبين الجيش العراقي في تلك الفترة، وأن هذه العلاقات شهدت تطوّراً مستمرّاً فيما بعد. غير أن المنعطف الحقيقي في تاريخ توظيف القضية الكردية، كان الدعم النوعي والمتعدّد الأبعاد الذي وفّرته الولايات المتحدة للحركة الكردية في العراق عام 1991، بعد ما سُمّي بـ«حرب تحرير الكويت»، بدءاً بالحظر الجوّي الذي فرضته فوق كردستان، وأتاح تحوّل الأخير إلى إقليم خارج عن سيطرة الدولة العراقية. لقد أشرفت واشنطن على إنشاء شبه دولة كردية في شمال العراق تنامت قوّتها وقدراتها مع مرور الزمن، خاصة بعد الغزو الأميركي عام 2003، والذي كان مقدّمة لإعادة صياغة «الشرق الأوسط» على أسس طائفية وإثنية.

زمرة المحافظين الجدد الصهيونية، التي وقفت خلف هذا المشروع، حاولت تكرار ما جرى بعد اجتياح جيوش الغرب للإقليم إثر الحرب العالمية الأولى، عندما تمّ تقسيمه وزرع إسرائيل في قلبه. اعتبر هؤلاء أن الكيان الكردي الناشئ سيضطلع بمهام وظيفية شبيهة بتلك التي قام بها الكيان الإسرائيلي في سياق عملية التقسيم الجديدة التي خطّطوا لها. وفي الحقيقة، ومن منظور التنظيمات القومية الكردية المسلّحة في البلدان الأخرى كإيران وتركيا، وفي مرحلة متأخّرة سوريا، أضحى هذا الإقليم «قصّة نجاح»، ونموذجاً يُحتذى، وملجأً لبعضها، كالمجموعات الكردية الإيرانية أو التركية، تستخدمه كقاعدة خلفية لعملياتها في تركيا وإيران. التناقضات السياسية والأيديولوجية بين بعض تلك التنظيمات، كـ»حزب العمال الكردستاني» و»الحزب الديموقراطي»، والتي أدت إلى صدامات دموية أحياناً، لم تَحُل دون استبطان الأوّل، وغيره من المجموعات المسلّحة الكردية، لاعتقاد مفاده أن النجاح في تحقيق أهدافها منوط بمدى قدرتها على نسج تحالف مع الولايات المتحدة والغرب. ومن الجدير ذكره، هنا، أن حزب «بيجاك»، الفرع الإيراني لـ»حزب العمال» الناشط ضدّ تركيا، باشر عمله المسلّح ضدّ إيران عام 2004، أي سنة بعد غزو العراق، وأن العديد من قادته وعناصره، كإلهام أحمد مثلاً، انضمّوا فيما بعد إلى «قوات سوريا الديمقراطية»، وساهموا في الدفع نحو توثيق الصلات مع الأميركيين، ومع الإسرائيليين، كما اتّضح في فضيحة تهريب النفط السوري، بعد توقيع عقد لهذه الغاية بين أحمد ورجل الأعمال الإسرائيلي موتي كاهانا (راجع: نفط الشمال السوري بيد إسرائيل!، الأخبار، 15 تموز 2019).

لقد أدّى غزو العراق إلى انتشار مواقع عسكرية ومراكز تدريب للمجموعات المسلّحة الكردية الإيرانية في كردستان، تشنّ منها هجمات على إيران برعاية ومساندة أميركية وإسرائيلية. وقد اتّضح مع الأحداث التي تشهدها إيران أخيراً، حجم الدور الذي تضطلع به هذه المجموعات، وشبكاتها العاملة داخل أراضي الجمهورية الإسلامية. أما «قوّات سوريا الديمقراطية»، فهي استغلّت الحرب الدولية – الإقليمية ضدّ سوريا، ودورها كقوة رديفة للقوات الأميركية في الحرب على «داعش»، لتسيطر على مساحات واسعة من الشرق السوري، وأسهمت في استراتيجية واشنطن لحرمان الدولة السورية من مواردها. استلهمت جميع تلك المجموعات «التجربة الكردية العراقية»، وأهمّ دروسها هو الاندراج في الأجندة الأميركية والسعي إلى بلوغ الغايات الخاصة في إطارها. هي حرصت أيضاً على الإفادة من التناقضات بين دول الإقليم، والتقاطع أحياناً مع بعضها ضدّ بعضها الآخر، للاحتفاظ بمكاسبها وتوسيع هامش مناورتها. لكن المستجدّات المرتبطة بتداعيات الحرب في أوكرانيا على السياق الجيوسياسي الإقليمي، وما نراه من جهود روسية للتقريب بين دمشق وأنقرة، ومن اعتدال في نبرة المعارضة الروسية والإيرانية لتدخّل عسكري تركي ضدّ «قسد» في سوريا، ومن تزامن في توظيف «الورقة الكردية» في إيران وفي تركيا (تفجير إسطنبول)، جميعها عوامل قد تفضي إلى تقاطع أكبر بين دول الإقليم في مواجهة التنظيمات الانفصالية الكردية. مَن يراهن على «الوفاء» الأميركي مقابل ما قدّمه من خدمات، سيندم ولو بعد حين.

زر الذهاب إلى الأعلى