كتب ابراهيم بيرم
لا تنكر الاوساط المعنية في “حزب الله” فرضية أنها على عِلم مسبق بالعملية النوعية الواسعة التي تنفذها حركة “حماس” بشراكة مع فصائل أخرى منذ قرابة السادسة من صبيحة السبت الماضي والتي لا تزال تتوالى فصولا، إلا أنها تنفي في الوقت عينه علمها المسبق بتطورين اثنين:
الاول، حجم هذه العملية والمدى الواسع الذي بلغته بعد ساعات على انطلاقها، ما جعلها عملاً عسكرياً بكل المقاييس والاعراف ذات الطبيعة الاستراتيجية، التي لها صلة بتجارب الصراع العربي – الاسرائيلي السابقة، إن من حيث المسارات أو من حيث النتائج العسكرية.
الثاني، مدى الانعكاسات المرتقبة لهذه العملية على المحيط، وتحديداً على خطوط التماس والمواجهة التي يمكن إدراجها في المدى الحيوي لـ”محور الممانعة والمقاومة”، وخصوصا على جبهة الجنوب اللبناني، التي هي معاقل الطرف الاكثر قوة وتنظيما وقدرة على الحراك المفتوح، وصاحب الترسانة الاضخم في الاقليم، أو بمعنى آخر القوة التي أُدرِجت في خانة الاحتياط الاستراتيجي الحاضر دوماً للانخراط في أي مواجهة شاملة، وهو “حزب الله”.
وبناء عليه، تؤكد تلك المصادر ان قيادة الحزب فوجئت الى حد بعيد بأمرين اثنين:
- بما بلغته الهجمة المنظمة المباغتة التي اطلقتها حركة “حماس” وسائر فصائل المقاومة على ما صار يُعرف بمستوطنات غلاف غزة والتي هي عبارة عن قلاع عسكرية تتحصن منذ عقود لتكون الرادع لغزة ومن يقطنها.
- حال الوهن الذي آلت اليه اسرائيل على مستوى الادارتين السياسية والعسكرية للموقف، وهو ما يجده الحزب مصداقا للشعار الذي رفعه سيده منذ عام 2000 في ذروة الشعور بفائض القوة بعد حدث تحرير الجنوب في ذاك العام، وقال فيه: “ان اسرائيل صارت أوهن من بيت العنكبوت”. وهو تعبير قرآني يدل على هشاشة وضع المكنّى به.
وعليه، كان الحزب ينطلق في تفاعله وتماهيه مع هجوم “حماس” على محيطها الاستيطاني في العمق المتاخم لها، من انه حدث غير كل الاحداث المماثلة التي سبقت على كل المستويات، وكان ينطلق ايضا من خلفية فحواها ان فعل حليفته “حماس” هو فعل ريادي يجسّد إرادة كل محور الممانعة، واستتباعاً رد هذا المحور على كل الضغوط المكثفة عليه من الجانبين الاميركي والاسرائيلي خصوصا في الاشهر الأخيرة التي كان أحدثها وأكثرها إيلاما الغارة على كلية الضباط في حمص وقبلها قطع الطريق بين سوريا والعراق (معبر أبو كمال). فهذه الغارة هي في رأي دوائر القرار في المحور اياه انها كانت من إعداد أميركي مباشر.
وبعد ساعات من الاغارة على حمص كان أمام القيادة المركزية للمحور، وفق معلومات، تقييم موقف يقوم على أمرين: ان المحور الاميركي – الاسرائيلي قد دخل هذه المرة في حرب تدمير ممنهجة ضد المحور يُراد منها تقويض ما تبقّى له من عناصر القوة توطئة لتقطيع أوصاله، وان هذا القرار نهائي ولا عودة عنه. وكان الاستنتاج لدى هذه القيادة ان رد المحور يتعين ان يكون من طبيعة استثنائية غير مألوفة، وهو يراوح ما بين دفع الامور الى الهاوية وبين اللعب على حافة تلك الهاوية.
ومن هنا كانت هجمة “حماس” المدوّية صبيحة السبت، وهي برأي اوساط الحزب تتخطى في مسارها العسكري ونتائجها مقارنة البعض لها بأنها تحاكي حرب تشرين عام 1973 لانها تفوقها بأضعاف على رغم بطولات مشهود لها سجَّلها الجيشان المصري والسوري في حينه.
كان الحزب يعلم تماما انه لا يمكنه إلا ان يكون معنيا وشريكا مباشرا بهذه الهجمة، وهو ما يفرض عليه أداء أدوار تتخطى الادوار المألوفة في حروب غزة السابقة مع الاحتلال الاسرائيلي منذ ان أضحت محررة من هذا الاحتلال. لذا لم يكن الحزب يطلق كلاما على عواهنه عندما اكد في بيانه الاول الذي اصدره بعد ثلاث ساعات على بدء هجوم “حماس” انه يتابع من كثب ويرصد بدقة مسار التطورات الميدانية والسياسية من باب المعنيّ المباشر وليس المراقب، خصوصا انه على تنسيق وتشاور على مدار الساعة مع حركة “حماس” والفصائل الاخرى عبر غرفة العمليات المشتركة وعبر الاتصالات بين القيادة السياسية. والأهم ان الحزب اكد ان المواقف التي يعتزم اتخاذها والخطوات التي ينوي ان يخطوها لاحقاً تتحدد بناء على التطورات والوقائع الميدانية.
وبهذا المعنى، ترك الحزب باب الاحتمالات مفتوحا على مصراعيه ولكن من مدخل الشراكة التامة المبنية على مبدأ “ترابط الساحات” والقائم على فكرة ان اي اعتداء خارجي يستهدف أياً من اطرا المحور هو اعتداء موصوف على كل المحور، فيصير لزاماً على المنضوين فيه المشاركة في الرد.
وفي موازاة هذه التعهدات، كانت مصادر الحزب تسرّب الى وسائط الإعلام ما مفاده ان الحزب بعث برسالة الى تل ابيب عبر القاهرة يحذرها فيها من ان احتمال دخول عناصره الى الجليل الأعلى يصير احتمالا كبيرا اذا ما فكرت اسرائيل باجتياح برّي لغزة. وبعد 24 ساعة على بدء “حماس” هجومها كان الحزب يرد بطريقته المدروسة على كل التساؤلات التي تنامت في أعقاب بدء “حماس” هجومها، وفحواها ما هو مستقبل الوضع على الحدود اللبنانية مع اسرائيل اذا ما تطورت الامور الميدانية؟ واستطراداً، ما هي ردة فعل الطرف الاقوى في المحور خصوصا حيال امرين:
- انه لا بد له ان يكون هذه المرة عند تعهداته ويترجم شعارات التشابك والترابط على نحو عملي.
- انه صار يصعب عليه ان يستعيد تجربة عام 2006 عندما سعى يومها الى تخفيف مستوى الضغوط على غزة التي كانت تحت النار الاسرائيلية فنفّذ عملية أسر الجنود الاسرائيليين في محيط بلدة عيتا الشعب.
وهكذا، وبعد 24 ساعة بالضبط كان الحزب يلج هذه المرة الى ميدان المواجهة الحالي ولكن من الباب المضمون الذي يدل ضمناً على انه ليس في وارد فتح ابواب المواجهة على مصاريعها، ولكنه عازم في الوقت عينه على ان يوحي لمن يعنيهم الامر انه شريك وليس متفرجا، فكانت مدفعيته توجه قذائفها نحو ثلاثة مواقع اسرائيلية في مزارع شبعا، اي انه اختار الميدان الذي يعرف العالم كله انه منطقة متنازع عليها، وان اسرائيل وإن كانت تتمركز فيها منذ عقود إلا انها لا يمكن ان تزعم ان احتلالها ناجز كما هو احتلال جبل الشيخ المتاخم.
وبمعنى آخر، عاد الحزب الى استخدام الساحة الاحتياطية الدائمة لتفجير المواجهة على غرار تجارب سابقة حيث كان يشعل تلك المنطقة غبّ الطلب وعند الحاجة.
ويؤكد الخبير الاستراتيجي العميد المتقاعد الياس فرحات: “لقد اعتدنا منذ عام 2000 ان تكون مزارع شبعا وتلال كفرشوبا هي مكان ربط نزاع بين المقاومة وجيش الاحتلال كونها مناطق لبنانية تحتلها اسرائيل، أي انها بموجب القانون الدولي مناطق متنازع عليها وغير محسومة الملكية فيتم اللجوء اليها عند الحاجة”.
ويضيف: “لكن هذه المرة ثمة تطورات اكثر خطورة في جبة غزة ومحيطها تفرض وقائع مختلفة. فالمعركة الدائرة هناك بضراوة هي بين مقاتلين فلسطينيين وجنود الاحتلال داخل مستوطنات غلاف غزة، فاذا ما نجحت قوات الاحتلال في إبعاد المقاتلين الفلسطينيين منها وترجمت تهديداتها بتنفيذ اجتياح بري لغزة، فمعنى ذلك ان احتمال انفجار الوضع على جبهة الجنوب صار احتمالا واردا وجديا. وهذا الاحتمال يبتعد بقدر ما تصمد “حماس” ومن معها في العمق الاسرائيلي وتنجح في توجيه ضربات موجعة للاحتلال. وباختصار ان الامور مرهونة بمآلات الاوضاع في غزة ومحيطها”.
وإلى أن تنجلي صورة الاوضاع في غزة، يختم فرحات بان “الوضع في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، واستتباعاً على طول الحدود مع الكيان، سيظل مفتوحا على التوتر والرسائل النارية المضبوطة”.