كتب ابراهيم الأمين في “الأخبار”:
سلسلة العمليات الكبيرة التي قام بها العدو، بدأت بقصف منشآت مدنية في اليمن، مروراً باغتيال القائد الجهادي الكبير في حزب الله فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية أول من أمس، وصولاً إلى اغتيال القائد إسماعيل هنية في طهران فجر أمس. سياق هذا النوع من العدوان، يصب في السياق الرئيسي لمساعي رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، في جعل المعركة القائمة تستند إلى سردية عرضها في خطابه أمام الكونغرس، عندما خاطب أميركا بأن كيانه هو الوكيل المكلّف بحماية مصالح الغرب في المنطقة.ويبدو واضحاً أن العدو يسعى من خلال برنامجه الدموي الجديد للانتقال من مربع الفشل الكبير في غزة، إلى مربع توسيع الحرب مع جميع قوى المقاومة في المنطقة، على أمل الفوز، أولاً وأخيراً، بتورط أميركي وغربي مباشر في حروبه، وتحقيق ما يمكّنه من العودة إلى غزة بحثاً عن نصر مزعوم.
لكن للعدو أهدافه المباشرة في عمليتي بيروت وطهران. فهو يريد، في الجانب الفلسطيني، كسر الموقع القيادي الصلب لحركة حماس، عبر اغتيال أبرز رموز المقاومة الفلسطينية. كما هدف إلى التحرش القاسي بإيران كراعية لقوى المقاومة، معتقداً أن استدراجه لها نحو حرب مباشرة يمنحه الشرعية التي يريد تحويلها إلى شراكة مع الأميركيين في الحرب. بينما يسعى في حالة لبنان إلى فرض قواعد جديدة للاشتباك في الميدان، آملاً في تحصيل نوعين من الأثمان، واحد سريع يتعلق بفصل جبهة لبنان عن غزة، وآخر يتعلق بالحصول على ضمانات أمنية في لبنان لإقناع مستوطنيه بالعودة «الآمنة» إلى مستعمرات الشمال.
ومن لم يفهم مقاصد نتنياهو طوال الفترة السابقة، فإن رئيس حكومة العدو عمد بنفسه، ليل أمس، إلى شرح هذه الاستراتيجية، وهو قال صراحة إن برنامجه يقوم على الاستمرار في الحرب، وإنه «لم ولن يخضع لأي ضغوط لوقفها»، قبل أن يذكّرنا بأن إسرائيل ستقتل كل من يمس أمنها، وأنه مستعد مع حكومته وجيشه لمواجهة أي خطوات تقوم بها جبهات المقاومة رداً على جرائمه في لبنان واليمن وإيران.
لكن العدو احتاج في خطوته الجديدة إلى ارتكاب خطأ جسيم وكبير لم يدرك نتائجه الآن، وهو إفساح المجال أمام مستوى جديد من التنسيق بين قوى المقاومة، والانتقال من مرحلة التشاور والتنفيذ غير المترابط، إلى مرحلة التنسيق الكامل، وهو ما سيظهر بشكل جلي من خلال شبكات الردود عليه، والتي ستنطلق من إيران واليمن ولبنان والعراق ومن فلسطين أيضاً.
عملياً، ما كان مقدّراً حيال نتائج زيارة نتنياهو لواشنطن تحوّل إلى وقائع قاسية. وتصرّف نتنياهو كمن حصل على أكثر من إجازة لمواصلة جنونه في غزة. وأقدم على أعمال جهة تملك التفويض للقيام بالمزيد من الجرائم لتحقيق أهدافه. وهو استعجل استغلال حصاد زيارته لأميركا من خلال توسيع دائرة النار والذهاب مباشرة إلى الحريق الكبير. وفي عرف الرجل أن ذلك يسمح له بجر «العالم الحر» إلى معركة مباشرة مع إيران، بوصفها مركز الخطر الذي يتعرّض له كيان الاحتلال.
واستراتيجية الحريق الكبير تحتاج إلى بعض الدهاء. لكنها تحتاج أكثر إلى قلة الأخلاق. وفي حالة إسرائيل، تظهر حاجتها إلى حمقى أيضاً، لأن في كيان العدو الكثير من العقول الشريرة القادرة على ابتداع الحلول، على شكل عمليات دموية، تعيد تحريك الذاكرة العربية، حول عقيدة الاغتيالات الثابتة في أداء العدو. وجل ما تصبو إليه إسرائيل ليس رد فعل من جانب محور المقاومة يتيح لها توسيع الحرب، بل ردود أفعال من شأنها جر الغرب بقيادة الولايات المتحدة إلى المشاركة في حربه المشتهاة.
وإذا كانت إسرائيل دقيقة في تنفيذ ضرباتها الأمنية – العسكرية، ما يمنحها فرصة التباهي بتفوق تقني واستخباراتي وبأنها صاحبة اليد الطولى، فإن النتائج قد تُفقد كل ما سبق معناه، خصوصاً عندما لا يكون الهدف قابلاً للتحقّق، ما يعيدنا إلى الحكمة التي تقول إن الأهم من اليد الطويلة هو العقل الذي يحركها. وليس صعباً تقديم الشروحات حول فشل تقديرات العدو وفشل حساباته، وها هي الحرب في غزة تمثل الدليل الأكبر على عجز اليد الطويلة والقاسية عن تحصيل الأمن للكيان. ومن يفترض أن النجاح يقاس بكمية القتل، لا يمكن له أن يفهم أن من يقاتل إسرائيل ليس مضطراً لمجاراتها في لعبة القتل المفتوح. ذلك أن العلاج الحقيقي لهذا الكيان المريض لا يكون بتبنّي عقيدته القتالية أو الأمنية.
يعلم العدو أن الرد حتمي على جرائمه في بيروت وصنعاء وطهران وغزة. لكن الرد قد لا يجيب بصورة كاملة على التحدي الذي يفرضه العدو على قوى المقاومة اليوم. وهو التحدي الذي يلزم أهل المقاومة بالبحث عن أدوات جديدة لعقاب، لا يستهدف «تأديب» المجرم بضربة على اليد فقط، بل توجيه ضربات على الرأس، ولو كانت الطريق تفرض الدخول في حرب واسعة، علماً أن المقاومة أوضحت للعدو مراراً أن عدم الرغبة في الحرب الشاملة لا يعني الموافقة على شروطه. لذلك، فالأصح القول: لا نريد الحرب الشاملة، ولكن ليس بأي ثمن!
قيل قديماً إن تبسيط الأمر يساعد على فهم المشكلة ويسهّل علاجها. وها نحن اليوم في مواجهة معضلة ناجمة عن كون العدو يتصرف على أساس أنه يخوض حرباً وجودية. وإذا تصرف المقاومون بأنهم أمام جولة، لا حرب شاملة، فإن العدو، لا يريدها جولة فحسب، بل يريدها جولة حاسمة. وهذا ما يلزم محور المقاومة بالتعامل معه، وفق ما يفكر فيه، ويفرض على المقاومة أن تقاتله على قاعدة ما يفكر فيه، بما في ذلك إفهام العدو جيداً بأنه في حالتنا الراهنة، قد يصح العمل بالحكمة الشهيرة: «إذا هبتَ أمراً، فَقَعْ فيه؛ فإنّ شدّة توقّيه أعظمُ مما تخافُ منه».
كل التقديرات، تركّز على أن العدو ينطلق في موجة جنونه الجديدة من أن الطرف المقابل له لا يريد الذهاب نحو حرب شاملة. ولذلك، فهو يقتنص الفرص بتسديد ضربات قاتلة، لئيمة، مؤذية وجارحة بقوة. وهو يريد تثبيت قدرته على القيام بما يجيد القيام به، وأن يخرج علينا بين وقت وآخر ليقول لنا إنه قادر على الوصول إلى حيث يريد.
ليس أمامنا سوى المقاومة. وهذه المرة، ليس أمامنا، سوى التقدم خطوة، والارتفاع فوقه بسقوف، حتى ولو كانت الطريق تقود باتجاه الحريق إياه. وعندما نفعل ذلك، لا نكون كمن يرمي نفسه في التهلكة، بل كمن يعرف جيداً أن إخماد النار غير ممكن ومشعلها حر طليق!