“”إسرائيل” تترنح “إلياس فرحات”

تشهد “إسرائيل” اضطرابات غير مسبوقة في تاريخها طالت بنيتها السياسية ونسيجها الاجتماعي. وقف الإسرائيليون مذهولين إزاء المشهد: تظاهرات صاخبة. الشرطة تقمع المستوطنين وتوقفهم. عناصر الاحتياط يهددون بعدم الاستجابة للاستدعاءات ورفض التدريب والخدمة. 200 طيار مقاتل احتياطي يعلنون رفضهم الخدمة احتجاجاً على ما سمي بـ”خطة الإصلاح القضائي”.

مضى أكثر من شهرين، وما زال الخلاف بين الحكومة ومعارضي الخطة يتفاقم ويتعمق، وما زالت فرص التوافق تضعف. أقالت الحكومة وزير الأمن يؤاف غالانت لأنه عارض الخطة. مضى نتنياهو وحكومته قدماً بتنفيذ الخطة والتصديق على قوانين أساسية تحد من سلطة القضاء لمصلحة الحكومة التي يهيمن الائتلاف الحاكم عليها وعلى الكنيست.

عمت التظاهرات المستوطنات، وأعلن اتحاد العمال “الهستدروت” إضراباً عاماً وصل إلى السفارات الإسرائيلية في الخارج، وسُجّل هروب رؤوس أموال إلى مصارف في الخارج، وأُغلق مطار بن غوريون ومرفآ حيفا وأسدود.

دبّ القلق والذعر في القيادات العسكرية أمام مشهد الانقسام الخطر واحتمال نشوب حرب أهلية للمرة الأولى في تاريخ “إسرائيل”. حذر رئيس أركان الجيش الجنرال هرتسي هاليفي من مغبة تفكك “الجيش”، في حين قدر رئيس الشاباك رونين بار أن يؤدي ذلك إلى اتساع المعارضة في “الجيش”، وفي الأجهزة الأمنية أيضاً.

رغم إعلان نتنياهو تجميد إقرار القوانين، فإن الانقسام ما زال قائماً، خصوصاً بعدما نزل أنصار اليمين المتشدد من أنصار الائتلاف الحاكم إلى الشارع. وما زاد الطين بلة هو قرار الحكومة الإسرائيلية إنشاء الحرس الوطني بإمرة وزير الأمن الوطني بن غفير. ومن المرتقب أن ينضم إليه المتطرفون الدينيون، وأن يستفزوا الرأي العام بعملياتهم الإرهابية. 

وقد أعلن نتنياهو والرئيس هرتسوغ ومسؤولون حاليون وسابقون من مختلف المستويات أن “إسرائيل” تواجه خطراً جدياً وحقيقياً ينذر بنهايتها، واجتمعت هذه التطورات مع جملة تطورات محلية وإقليمية ودولية لتشكل تهديداً حقيقياً للكيان الإسرائيلي نستعرضها في ما يلي:

1- خطة الإصلاح القضائي

“إسرائيل دولة” بلا دستور رسمي مكتوب، تحكمها مجموعة “قوانين أساس” تنظم تقسيم السلطات وحقوق الإنسان والحقوق المدنية. عند تعارض قانونٍ أقره الكنيست مع قانون أساس، يمكن للمحكمة العليا أن تنظر في دستوريته. هذه المحكمة هي أعلى سلطة قضائية، وهي مستقلة تماماً عن السلطتين التشريعية والتنفيذية.

تتضمن خطة الإصلاح القضائي تعديلات على قوانين أساس قضائية:

أول تعديل مرتبط بتعيين رئيس المحكمة وأعضائها، فبعدما كان يتم من قبل لجنة من كبار القضاة المتقاعدين، تم اعتماد طريقة جديدة للتعيين من قبل لجنة برئاسة وزير العدل، ووزيرين آخرين تحددهما الحكومة، و3 أعضاء من الكنيست، بينهم رئيس لجنة الدستور وعضو من الموالاة وآخر من المعارضة، لإجراء مقابلات مع المرشحين، ما يعني سيطرة الحكومة على عملية تعيين قضاة المحكمة.

التعديل الثاني يسمى فقرة “التغلب”، وهي تتيح للكنيست إعادة سن قانون سبق أن أقره الكنيست وأبطلته المحكمة العليا، ولو بالإجماع.

التعديل الثالث لا يسمح للمحكمة العليا بمناقشة قوانين الأساس، أي القوانين ذات المفعول الدستوري.

التعديل الرابع يتعلق بنزع أهلية رئيس الوزراء، ويقلص إلى حد كبير صلاحية المحكمة في تحديد أهلية رئيس الوزراء.

تُضاف إلى ذلك تعديلات أخرى، أبرزها تلك التي تمنع المحكمة العليا من استخدام أبرز صلاحياتها المسماة “امتحان المعقولية” في القرارات الحكومية والتشريعات البرلمانية والقرارات والأوامر الصادرة عن المؤسستين الأمنية والعسكرية، ولو كانت تستند إلى تشريعات صادرة عن الكنيست.

هذه التعديلات تضعف المحاكم وتسلم السلطة المطلقة للحكومة، الأمر الذي يرتب نتائج كارثية على الحريات والاقتصاد وعلى العلاقة مع الحلفاء الغربيين. إن النظر إلى القضاء باعتباره غير مستقل يجرد “إسرائيل” من سمعتها في القضايا القانونية الدولية.

2- تحولات عددية وثقافية في المجتمع الإسرائيلي

منذ إنشاء “إسرائيل” عام 1948، استند المجتمع الإسرائيلي إلى المهاجرين اليهود الصهاينة الآتين من البلاد الأوروبية، الذين طوروا عصابات الهاغانا، فأصبحت جيشاً كاملاً، وفرضوا حياة مدنية شبيهة بالحياة الأوروبية في المدن، وبنوا كيوبيتزات تشبه المزارع في الدول الشيوعية. 

جذب الكيان الناشئ بتركيبته تأييد المجتمع الغربي، لكنه أفسح المجال للتيارات الدينية لممارسة نشاطاتها. وقد استطاع الإعلام الصهيوني أن يغيّب نكبة العرب الفلسطينيين وجريمة طردهم من بلادهم عن الرأي العام العالمي لمصلحة الدعاية عن المجتمع الإسرائيلي الجديد.

كان معظم الإسرائيليين ينتمون إلى مجموعات من الصهاينة والعلمانيين وبعض اليسار والمتدينين، وكان حزب العمل الإسرائيلي هو الحزب المؤسس لـ”دولة إسرائيل”، والحاكم منذ عام 1948 لغاية وصول اليمين ممثلاً بالليكود بزعامة مناحيم بيغن إلى السلطة عام 1977.

بعد ذلك، بدأت نتائج الانتخابات تتغيّر وتتّجه إلى مزيد من سيطرة اليمين، وتحديداً اليمين الديني والانتقال من المتطرفين إلى الأكثر تطرفاً، حتى وصل إلى السلطة أمثال بن غفير وسموتريتش.

على الصعيد الاجتماعي، يمكن تقسيم “إسرائيل” إلى 4 قبائل أو أقسام هي: 

العلمانيون

هم اليهود الَّذين هاجروا من بلاد أوروبية أو من الكتلة السوفياتية، والذين يعيشون نمط حياة علمانياً، لكنهم يعتنقون الفكر الصهيوني العنصري، وهم غالبية اليسار وبعض اليمين، وغالبيتهم من اليهود الأشكناز، أي الغربيين، مع أقلية من السفرديم.

الصهاينة

هم المهاجرون الذين يعتنقون الفكر الصهيوني العنصري اليميني، ويمارسون الطقوس الدينية، ويتحدّر معظمهم من السفرديم، أي اليهود الشرقيين. يشارك العلمانيون والصهاينة في الحياة الاجتماعية، وفي العمل والإنتاج والرياضة، وينضمون إلى الأسلاك العسكرية والأمنية، ويرتدون أزياء أوروبية عادية.

الحريديم

هم جماعة من اليهود المتدينين الأصوليين الذين يمارسون الطقوس الدينية ويعيشون حياتهم كما تنصّ عليها شريعة التوراة. يرتدي الحريديم أزياء بعض يهود أوروبا الشرقية المؤلفة من قبعة سوداء ومعطف طويل أسود، ويطيلون ذقونهم، ويتبنون التفسيرات الأكثر تشدداً للتوراة، وخصوصاً العبادات والطقوس الدينية، وينعزلون في سلوكهم عن بقية اليهود، وهم ينتظرون “مجيء المسيح المنتظر ليخلصهم ويقيم مملكة الرب”.

لا يؤمن الحريديم بتحديد النسل. لذلك، تتزايد أعدادهم باطراد (نحو 8 إلى 10 أولاد في الأسرة) مقارنة بالعلمانيين الذين ينجبون عدداً قليلاً. ازدادت أصواتهم الانتخابية في كيان يمارس الديمقراطية العددية. أدى ذلك إلى تغير نتائج الانتخابات ونشوء كتل نيابية في الكنيست لليمين الديني المتطرف أسهمت في قلب الموقف السياسي وتركيبة السلطة في “إسرائيل”. وقد بات من الصعب استبعاد اليمين المتشدد عن السلطة، وصار وصول الأحزاب العلمانية الصهيونية صعباً.

ينعزل الحريديم عن المجتمع، ويواصلون الدراسة في مراحل التعليم الديني حتى سن الأربعين، وهم بذلك لا يتلقون التعليم الأكاديمي الكامل، ولا يلتحقون بـ”الجيش” والقوى الأمنية، ولا يشاركون في النشاطات الرياضية، ويعيش معظمهم على مساعدات الدولة، ويشكّلون عبئاً اقتصادياً واجتماعياً على المجتمع الإسرائيلي.

العرب:

نقصد بالعرب (الفلسطينيون) سكان الأراضي المحتلة عام 1948، أي من بقوا في أرضهم بعد تهجير غالبية السكان من فلسطين وإحلال مستوطنين يهود مكانهم.

بشكل عام، يشعر العرب، مسلمين ومسيحيين، باضطهاد اليهود وبإجحاف بحقوقهم في التعليم والخدمات الطبية والبلدية. ورغم انتماء بعضهم إلى أحزاب صهيونية، فهم مستبعدون من أي منصب سياسي، ووصل الأمر إلى أن يطلب منهم الخروج من اجتماعات لجنة الأمن والخارجية عند مناقشة وضع الفلسطينيين في المناطق المحتلة عام 1967، أي الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس.

يُعفى الفلسطينيون في فلسطين 1948 من الخدمة العسكرية الإلزامية، انطلاقاً من قرار من قسم الموارد البشرية في أركان “الجيش” الإسرائيلي، بناء على قانون يمنح القيادة العسكرية سلطة التقدير، لكن عدداً قليلاً ينضم طوعاً إليها. وفي إطار سياسة “فرق تسد”، سمحت “إسرائيل” بتجنيد البدو والشركس والدروز، لكن لطالما واجه هذا التجنيد مشكلات واعتراضات.

الهاجس الديموغرافي

بلغ عدد “سكان إسرائيل”، بحسب موقع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، 9 ملايين و40 ألفاً، من بينهم 21% عرب فلسطينيون، أي نحو مليون و800 ألف، فيما يبلغ عدد سكان الضفة الغربية 3 ملايين، وعدد سكان قطاع غزة مليونين، بحسب الموقع نفسه.

 بمعنى آخر، التوازن الديموغرافي في فلسطين التاريخية من البحر المتوسط إلى نهر الأردن هو 7 ملايين عربي في مقابل 7 ملايين يهودي تقريباً. هذا التوازن مرشح إلى أن يختل لمصلحة العرب. تشير هذه الأرقام إلى أن التوزيع الديموغرافي في فلسطين التاريخية أصبح قنبلة موقوتة.

لا يمكن لـ”إسرائيل” أن تستمرّ بهذا التركيب السكاني الهش. أزمة خطة الإصلاح القضائي قسمتها ولطخت صورتها، ولم تسفر المفاوضات عن توافق باستثناء تأجيل الانفجار. إنّ أي انتخابات جديدة لن تغير الوضع، لأن أصوات الحريديم كفيلة بإبقاء التوازن السياسي على حاله أو اختلاله لمصلحة اليمين الديني المتشدد.

3- انتفاضة بطيئة في الضفة الغربية

في الوقت الذي يسيطر الانقسام على المشهد الإسرائيلي، لم تتأثر قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية بشعارات الحرية التي تنادي بها في تظاهرات “تل أبيب”، وما زالت تفرض الحصار على المستوطنين وتستمر بالقمع. في المقابل، ينتهز الفلسطينيون الفرصة للتحرك في أي هامش متاح لمقاومة الاحتلال وبمختلف الوسائل.

ورد في تقرير للأمم المتحدة – مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة أن “إسرائيل” تنشر 704 حواجز في الضفة الغربية. وبذلك، تقطع أوصالها وتعوّق حركة المواطنين في مساحة نحو 5600 كلم 2.

بنت “إسرائيل” جدار فصل عنصري بشكل متعرج قضم مساحات من الضفة وضمها إلى جهتها، وبلغ طوله 712 كلم، رغم صدور حكم عن محكمة العدل الدولية باعتبار الجدار غير قانوني.

تُجمع الأحزاب السياسية في “إسرائيل” على قمع الفلسطينيين واضطهادهم ومحاصرتهم ومنعهم من حرية الانتقال، وتدعم أعمال القتل والاغتيال التي تقوم بها قوات النخبة والمستعربين وتفجير المنازل ومصادرة الأراضي وبناء مستوطنات على بعض ما تبقى من أراضي الفلسطينيين، وكلها أعمال مخالفة للقوانين الدولية.

ظنّ الإسرائيليون أن بنية القمع العسكرية تقوض قدرة الشعب الفلسطيني على الانتفاضة بوجه الاحتلال، لكن الشعب الفلسطيني تمكن من ابتداع طرق لمقاومة الاحتلال بما توافر له من وسائل: مسدس أو سكين أو دهس بالسيارات وأعمال احتجاج. 

وقد تصاعدت وتيرة عمليات المقاومة، وأربكت قوات الاحتلال. وبحسب الإحصائيات، نفذ أكثر من 10 آلاف عملية عام 2022، بينها 639 عملية إطلاق نار، و39 عملية طعن، و13 عملية دهس أدت إلى مقتل 25 مستوطناً وجندياً وإصابة 420 بجراح.

في آذار/مارس 2022، أطلق “جيش” الاحتلال عملية سماها “كاسر الأمواج” لمواجهة المقاومة في الضفة الغربية، فاستقدم تعزيزات مؤلفة من كتائب إضافية إلى القوات المنتشرة أصلاً، ودفع بكتائب أخرى إلى غلاف غزة. 

حمل ذلك المقاومين على اتباع تكتيكات جديدة تتفادى بها التدابير الإسرائيلية المشددة، وهي العمليات الفردية أو ما اصطلح على تسميته “الذئاب المنفردة” التي أوقعت إصابات بين الإسرائيليين، وجعلت من “كاسر الأمواج” غير ذي جدوى. أربكت هذه العمليات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وأصبحت عاجزة عن توقع أي هجوم. 

فصائل المقاومة الفلسطينية موجودة في الضفة الغربية، وهي تقوم جميعها بعمليات مقاومة وفقاً للظروف المحيطة بها، ويتعرض أفرادها للاعتقال والاغتيال من قبل وحدات المستعربين وقوات “الجيش” الإسرائيلي. وقد أسّس شباب فلسطينيون منظمة جديدة باسم “عرين الأسود” أربكت الاحتلال بعملياتها النوعية.

منذ بداية العام الحالي، تتسارع وتيرة المقاومة رغم الحصار وصمت السلطة الفلسطينية. ذُهل الإسرائيليون عندما علموا أن شابين ينتميان إلى قوات الأمن الوطني التابعة للسلطة هاجم أحدهما حاجزاً إسرائيلياً، والآخر دهس جنوداً.

يمكن اعتبار هذه العمليات انتفاضة عسكرية بطيئة. عام 1987، كانت انتفاضة الحجارة، وعام 2000 انتفاضة الأقصى. واليوم، لم نعد بعيدين من انتفاضة جديدة أعنف من سابقاتها وأشد ضرراً على “إسرائيل”.

4- قدرات عسكرية في غزة 

في غزة، يعيش نحو 2 مليون فلسطيني أحراراً من الاحتلال الإسرائيلي بعد انسحاب القوات الإسرائيلية منها عام 2005 من دون قيد ولا شرط، لكنها بقيت تحت حصار شديد، وصمد سكانها في ظروف صعبة. حاولت “إسرائيل” اقتحام قطاع غزة 4 مرات في 2008 -2009، وعام 2012، وعام 2014، وخلال عملية “سيف القدس” عام 2021، إضافة إلى عملية اغتيال الشهيد بهاء أبو العطا عام 2019، وعملية “وحدة الساحات” عام 2022، إذ جرت مواجهات بين حركة الجهاد الإسلامي والقوات الإسرائيلية.

ثبت من كل هذه العمليات الست عجز القوات الإسرائيلية عن اقتحام غزة وتخوفها من مواجهة برية مع المقاومة، وكشفت عن قدرات المقاومة، وهي القدرة الصاروخية، إذ وصلت صواريخ المقاومة إلى ضواحي “تل أبيب” والقدس، رغم تفعيل القبة الحديدية وقدرة القوات البرية، وخصوصاً الأسلحة المضادة للدروع، وتحديداً صواريخ “كورنيت” التي تردع “إسرائيل” عن أي هجوم بري، كما كشفت قدراتها في تصنيع الطائرات المسيرة وتشغيلها.

وفي عملية “وحدة الساحات”، صرح نفتالي بينيت، رئيس وزراء “إسرائيل” في حينه، أنه استدعى 25 ألفاً من الاحتياط، وأن العملية ستستغرق أسبوعاً، لكنه أعلن وقف إطلاق النار بعد أقل من 3 أيام بسبب تحليق طائرة مسيرة للجهاد الإسلامي فوق حقل تمار لإنتاج الغاز.

5- الخطر المحدق من الشمال

بعد إرغام القوات الإسرائيلية المحتلة على الانسحاب من جنوب لبنان عام 2000 من دون قيد ولا شرط تحت ضربات المقاومة اللبنانية التي ألحقت خسائر بالقوات الإسرائيلية، وبعد فشل الهجوم الكبير الذي شنته القوات الإسرائيلية في تموز/يوليو 2006، ظهرت المقاومة اللبنانية (حزب الله) كقوة ردع لبنانية تهدّد بالتصدي لأيّ هجوم إسرائيلي محتمل.

تغيرت قواعد الاشتباك، وتوقفت القوات الإسرائيلية عن مهاجمة لبنان بسبب تخوفها من مواجهة حزب الله. أعلن أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله حيازة المقاومة ترسانة من الصواريخ يصل مداها إلى كامل العمق الإسرائيلي، إضافةً إلى صواريخ مضادة للسفن وطائرات مسيرة تمكَّنت من خرق الأجواء الإسرائيلية عدة مرات.

أثار هذا الإعلان قلق “إسرائيل” وداعميها، فشنوا حرباً سياسية وأمنية وإعلامية لتشويه صورة المقاومة وإنهاكها، ولكنها تمكنت من تطوير سلاحها الصاروخي وتزويد الصواريخ بأجهزة توجيه دقيقة أعلن عنها السيد نصر الله عدة مرات في خطبه. 

وشكا رئيس الوزراء الإسرائيلي من أجهزة التوجيه الدقيقة، وهدد بضربها، وكانت ذروة الشكاوى عندما اعتلى منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعرض صوراً وخرائط لما قال إنها مواقع للصواريخ الدقيقة. 

لماذا تخاف “إسرائيل”؟

“إسرائيل” ضيقة جغرافياً وإستراتيجياً. يبلغ طول الساحل الفلسطيني الذي تسيطر عليه “إسرائيل” نحو 250 كلم، وعرضه يتراوح بين 15 كلم، أي المسافة بين طولكرم والساحل، و67 كلم، أي المسافة بين القدس و”تل أبيب”.

عند نشوب أي حرب مع الشمال، سوف يستخدم حزب الله صواريخه، وسوف تستخدم “إسرائيل” القبة الحديدية التي تعترض في أحسن أحوالها 70% من صواريخ المقاومة، فتسقط 30% على أهداف في العمق، أي “تل أبيب” و”نتانيا” وخضيرة والقدس و”بتاح تكفا” وغيرها.

سوف يتعذر على القوات الإسرائيلية القيام بعمليات على الجبهة الداخلية، من نقل القوات والمناورة بها وأعمال الإنقاذ والإطفاء والتموين وغيرها. إثر حرب عام 2006، أنشأت الأركان الإسرائيلية قيادة عسكرية جديدة هي قيادة الجبهة الداخلية. أجرت هذه الجبهة تمارين محاكاة على التعامل مع قصف صاروخي على الداخل الإسرائيلي، وكانت النتائج دائماً سلبية.

لم يعد هناك شكّ في أنَّ صواريخ حزب الله المضادة للسفن تطال الساحل الفلسطيني بكامله، وضمناً منصات استخراج الغاز والنفط الإسرائيلية. يمكن لهذه الصواريخ استهداف المنصات الست التي أصبحت خاصرة رخوة، وفي أدنى تقدير تعطيلها عن العمل، ما يلحق خسائر فادحة بالاقتصاد الإسرائيلي والأمن القومي، لا سيما أمن الطاقة. من هنا نفهم سبب تفادي “إسرائيل” التصعيد مع حزب الله.

6- تغيرات في الوضع الإقليمي

استفادت “إسرائيل” كثيراً من التطورات الإقليمية في العقود الأخيرة. أخرجت مصر والأردن من المواجهة بعد اتفاقيات “سلام” مع البلدين، كما أخرجت المقاومة الفلسطينية من لبنان بعد اجتياح لبنان عام 1982.

تراجعت قدرات العراق بعد الحرب العراقية الإيرانية، ثم بعد احتلال الكويت في عملية “عاصفة الصحراء” التي شنتها الولايات المتحدة وتحالف دولي عام 1991. وعام 2003، اجتاحت القوات الأميركية والتحالف الدولي العراق، وأنهكت الدولة والشعب، ثم كاد “داعش” يجهز على ما تبقى من هذا البلد، فخرج نهائياً من المعركة مع “إسرائيل”. 

ألحق “الربيع العربي” أضراراً بالغة بسوريا، وما زالت هدفاً متكرراً للهجمات الإسرائيلية حتى اليوم. على الصعيد الإقليمي، نجحت “إسرائيل” في إحداث خروقات كبيرة. في فلسطين، فرضت قراءتها لاتفاق “أوسلو”، وبنت المستوطنات في الضفة، وتمكنت من تدجين السلطة الفلسطينية والاستفادة من التنسيق الأمني لمنع أعمال المقاومة. 

كما تمكنت في السنوات الأخيرة من إحداث خرق سياسي كبير في اتفاقيات “أبراهام” مع الإمارات والبحرين والمغرب، وإلى حد ما السودان. نقلت وزارة الدفاع الأميركية “إسرائيل” من مسؤولية القيادة الأوروبية إلى مسؤولية القيادة الوسطى عام 2020، وأمكنها ذلك من المشاركة في مناورات عديدة في البحر الأحمر والبحر العربي والخليج مع دول عربية.

في 10 آذار/مارس 2023، أُعلن عن اتفاق سعودي إيراني عنوانه إزالة الخلافات وإعادة العلاقات بين البلدين، ولا سيما الدبلوماسية، ما قلب الأوضاع، وأنهى كل محاولات ضم السعودية إلى اتفاقات “أبراهام”، وباتت الاتفاقيات من دون جدوى. 

فقدت المناورات العسكرية التي كان العدو فيها دائماً إيران جدواها، ولم يعد لها معنى. مشروع الدفاع الجوي بين “إسرائيل” ودول الخليج الذي يقرب “إسرائيل” من إيران انتهى قبل أن يبدأ. انهار البنيان الإقليمي الذي عملت عليه “إسرائيل” بدعم ومشاركة من الولايات المتحدة عندما أعلن الاتفاق بين السعودية وإيران.

خاتمة

تقف “إسرائيل” في مرحلة حرجة من تاريخها. بعدما كانت وكيلة للولايات المتحدة في المنطقة، حضر الوكيل بنفسه ليدير شؤون مصالحه. بعدما أخرجت دول الجوار من المعركة، ظهر خطر حزب الله الذي يهدد بصواريخه كامل الكيان ومنصات النفط والغاز قبالة الساحل.

وبعدما حققت خرقاً سياسياً كبيراً في الإقليم باتفاقات “أبراهام”، انهار ذلك البنيان بعد اتفاق السعودية وإيران. دجنت السلطة الفلسطينية لإنهاء المقاومة، فإذا بالأخيرة تضرب بقوة وتقضّ مضاجع الإسرائيليين بعمليات مبتكرة.

أما في الداخل، فقد وصل اليمين الديني المتشدد بأكثرية الأصوات الناتجة من الأكثرية العددية للحريديم وضرب “الدولة” الصهيونية العميقة التي يقودها “الجيش” والأمن والمحكمة العليا وقطاع التكنولوجيا والمصارف. اجتمعت هذه الصور وباتت تشكل أول تهديد وجودي لـ”إسرائيل”.

Exit mobile version