كتب ابراهيم الأمين في “الأخبار”:
تجربة الحرب المجنونة في غزة، تمثّل الدرس الأكثر وضوحاً حيال نمط التفكير عند أهل القرار في كيان الاحتلال. الأمر لا يتعلق فقط بالقوة النارية، بل في الأهداف أيضاً. بمعنى أنّ كل حديث يصدر في الإعلام أو حتى في الأروقة الديبلوماسية عن أن إسرائيل تريد التخلّص من تهديد حزب الله لسكان المستعمرات الشمالية، لا يمثل على الإطلاق الهدف الفعلي لهذه الحرب.الأميركيون يغطون العملية العسكرية الإسرائيلية، ويوفرون الدعم للعمليات، مبررين ما يحصل بأنه انتقام ممّا فعله حزب الله على مدار السنة الماضية، أو أنه وقائي لأن حزب الله يخطط لمهاجمة إسرائيل. لكنّ واشنطن توفر الدعم للمهمة الأكثر أهمية، والتي تستهدف تدمير الحزب كمؤسسة عسكرية وسياسية ومدنية واجتماعية، وصولاً إلى شطبه من المعادلة في لبنان. مع هدف آخر، يعتقدون أنه سيكون تحصيل حاصل، إذ تريد أميركا وإسرائيل ودول عربية وإقليمية التخلّص من دور حزب الله وتأثيره في ساحات المواجهة الأخرى. وتحديداً في سوريا والعراق واليمن وصولاً إلى إيران نفسها.
في الرسائل الديبلوماسية، أو حتى في التصريحات العلنية، تقول إسرائيل إن عمل قواتها سوف يكون محدود الوقت والنطاق. البسطاء أو المتواطئون، يفسرون الأمر، على أنه اجتياح محدود لشريط من القرى التي تقع على الحافة الأمامية، حيث يقول العدو، إنه توجد فيها مواقع ومنشآت لحزب الله. لكن الحقيقة التي تعرفها إسرائيل ويعرفها كل العالم، أن قدرات المقاومة البشرية والعسكرية ليست مرتبطة بهذه المساحة الجغرافيّة. وبالتالي فإن العدو يكذب على جمهوره بأن عمليته محدودة. والكذب هنا، يخص أساساً الجبهة الداخلية التي يعرف قادة العدو أنها شديدة الهشاشة إزاء كل ما يتصل بلبنان.
بعد كل ما حصل منذ أسابيع عدة، يمكن تحديد بعض النقاط الأساسية:
أولاً: إنّ الحافزية الموجودة لدى قوات الاحتلال، قيادة وجيشاً وأجهزة أمنية، هي اليوم في أعلى درجاتها، ما يجعل العدو في موقع الراغب بالتقدم خطوة بعد خطوة. ولتحقيق هذا الهدف، فإن إستراتيجية العدو تتّكل على عنوانَي «الخداع» و«اللكمات المتلاحقة»، وخصوصاً أن العدو يتصرف على أساس أنه وجّه ضربة قاسية جداً، وأن حزب الله لا يقدر على الوقوف على قدميه من جديد.
ثانياً: واضح بقوة، أن العدو، بكل مؤسساته السياسية والعسكرية والأمنية، أعدّ نفسه بطريقة لا تشبه استعداده في أي مواجهة سابقة مع أيٍّ من أعدائه، وأنّ ما حققته الاستخبارات الإسرائيلية تجاه منظومة حزب الله، يركّز على تحديد نقاط القوة الواجب ضربها سريعاً، عبر لكمات على الرأس مباشرة، ثم مواصلة الضربات على بقية الجسم بهدف شل المقاومة بصورة تامة. وبناءً عليه، فإن «النشوة» التي تعيشها إسرائيل، وخصوصاً بعد اغتيال الأمين العام لحزب الله الشهيد السيد حسن نصرالله، تدفعها إلى المضي قدماً في عملياتها. ما يعني بوضوح، أن مسار العمليات العدائية، يظل مرتبطاً بواقع الميدان. وفي كل لحظة تشعر فيها إسرائيل أنها تتفوق، فسوف تتقدم إلى الأمام أكثر.
ثالثاً: واضح أن العدو استفاد كثيراً ليس من تجربته في حرب عام 2006، بل أيضاً، من تجربة القتال في غزة منذ عام. وهو ما يجعل قوات الاحتلال، تتصرف بحذر في تحديد الأهداف، ليس فقط لمنع الوقوع في فخ القلق، بل لمنع أي تحولات تحصل على مستوى الجمهور في داخل الكيان. لأن حكومة بنيامين نتنياهو، تعرف أن الجبهة الداخلية، تتأثر بما يحدث مع لبنان بطريقة مختلفة عن أي جبهة أخرى. كما أن الإجماع القائم الآن حول الحرب على لبنان، يظل متماسكاً طالما هناك نجاحات، لكن اختبار صلابته يبدأ عندما تظهر نتائج مخالفة في الميدان.
العملية البرية بلا حدود جغرافية وبلا سقف زمني وصلابة الجبهة الداخلية للعدو رهن صواريخ المقاومة
رابعاً: إن حديث العدو عن هدف تدمير القدرات التي تهدد المستوطنات الشمالية، يسمح لها بمناورة كبيرة. فإذا شعر العدو بتعقديات وصعوبات، فهو يعطي نفسه هامش التراجع، وفتح المجال أمام المعالجات السياسية، وهو ما نعرفه جيداً. لكن حقيقة الأمر، أن إسرائيل لا تفكر بعلاج موضعي، بل هي تفكر بما هو أبعد بكثير. وواهم من يعتقد أن «القيادة الجماعية» للعدو تفكر في حدود المواجهة الموضعية مع حزب الله. لأن إستراتيجية العدو تستهدف تغييراً إستراتيجياً في المنطقة. يكون من ضمنه القضاء على حزب الله، ليس فقط كمصدر تهديد، بل كمركز وساحة لإدارة قوى المقاومة في فلسطين ومناطق أخرى.
خامساً: تتسم كل عمليات العدو، السياسية وحتى العسكرية بمبدأ «الخداع» في المواجهة مع لبنان. وهو خداع إستراتيجي، ليس مرتبطاً بمعركة محصورة في دائرة معينة. وبهذا المعنى، فإن ما تروج له إسرائيل من «محدودية أي عمل بري نطاقاً وزمناً»، لا يعبر مطلقاً عن ما يفكر به العدو. لكنه حيلة يمكن لحلفاء العدو ممارسة الضغط السياسي لمحاصرة حزب الله داخلياً. أو انتزاع تنازلات سياسية. وبالتالي، فإن العدو يعمل وفقاً لمبدأ «البناء العمودي» للضرب. أي إنها مستعدة لبناء طابق فوق طابق من مستويات العدوان . لكن حقيقة الأمر، أن إسرائيل تبدو مستعدة لما هو أكبر بكثير. ما يفتح المجال أمام تقديرات، بأن دائرة الاستهدافات من جانب العدو، لن تكون محصورة في منطقة معينة، وقد تتوسع لتشمل كل ما تعتقد إسرائيل أنه يخدم جبهة المقاومة في لبنان وخارجه. والجنون الإسرائيلي لن توقفه كل الدعوات الديبلوماسية، وخصوصاً أن الولايات المتحدة ماضية في دعمها المطلق لقوات الاحتلال. كما أن الدول الغربية الأخرى، ليست في وضع يمكّنها من فرض معادلات على إسرائيل.
سادساً: تعمل إسرائيل الآن، وفقاً لمنطق «كل يوم بيومه»، أي إنها تضرب وتنتظر النتائج، ثم تقرر الخطوة التالية. وهذا ما يحلينا إلى الاستنتاج المنطقي المقابل، لجهة معرفة أن ما يردع إسرائيل ويوقف اندفاعتها العسكرية، هو رهن برنامج عمل المقاومة. حيث يفترض بها، التوجه صوب توجيه ضربات إستراتيجة في عمق الكيان، والوقوف بثبات في الحلبة، ومبادلة العدو بإستراتيجية «اللكمات المتتالية». ونجاح المقاومة في تحقيق ضربات نوعية ضد العدو، سواء على الحدود، أو في عمق الكيان. يمثل العامل المركزي الذي يعيد ترتيب أولويات العدو، وليس هناك أي شيء آخر على الإطلاق.
إسرائيل تخوض الحرب منذ عام تحت عنوان «الحرب الوجودية». وهذا يعني أن على جبهة المقاومة القتال أيضاً من منطلق «الحرب الوجودية» أيضاً. وما بدأته المقاومة بالأمس، من ضربات نوعية جديدة، يمثل بداية مرحلة مختلفة. وإذا كان العدو منشغلاً في تقدير حجم الضرر الذي تسبّبت به عملياته. فإنه لم يعد يوجد أمام المقاومة سوى خيار الهجوم القاسي كوسيلة وحيدة لردع العدو. وما عدا ذلك، فإن كل الأفكار السياسية والحديث عن تسويات ليس سوى سراب بسراب!