أوكرانيا بعد بوتشا: من حرب بالوكالة إلى «تدخّل إنساني» مديد

وليد شرابرة- الاخبار

اختلاق الذرائع لشنّ الحروب، مباشرة أو بالوكالة، يُعدّ اختصاصاً أميركياً؛ من حادثة خليج تونكين التي برّرت الحرب على فيتنام، والتي اعترفت وكالة الأمن القومي الأميركية في عام 2005 أنها لم تقع، مروراً بالعدوان على العراق بذريعة امتلاكه أسلحةَ الدمار الشامل في عام 2003، وصولاً إلى تدمير ليبيا بحجّة إنقاذ سكان بنغازي من الإبادة، تطول لائحة الحروب المستندة إلى الأكاذيب، والتي حصدت أرواح الملايين من أبناء جنوب العالم. شيّدت الولايات المتحدة مجْدَها على جماجم وأشلاء «الملوّنين». مَن يحتاج إنعاشاً للذاكرة، وجرعةً جديدة تحيي الغضب البارد، وهو أقوى من الحقد، ضدّ «الأميركي البشع»، عليه بمشاهدة الوثائقي الرائع «أبيدوا جميع الأوغاد» (Exterminate All The Brutes) للمخرج راوول بيك، الذي يَحكي الرواية الأخرى لتاريخ الإمبريالية الأعتى، من منظور ضحاياها، ودورها المركزي في تشييد منظومة الهيمنة الغربية على الصعيد العالمي، وما صاحبها من نهْب واستغلال، واضطهاد قومي وعرقي، وإبادة لِمَن هم أضعف، إنْ اقتضى الأمر ذلك.

مَن لم تخنه الذاكرة، لا يحتاج إلى هذه المقدّمة قبل مناقشة طبيعة الصراع الدائر في أوكرانيا، وخلفياته ومآلاته المحتملة. أما الذين فقدوها تماماً، إلى درجة الاقتناع بسرديات أجهزة الدعاية والترويج الغربية، التي أضحت إعلاماً حربيّاً لا أكثر، فإنهم يحتاجون مثلها، لعلّهم يعودون إلى رشدهم. لن نعرف أبداً حقيقة ما جرى في بوتشا لسبب بسيط: لن تشارك أيّ جهةٍ مستقلّة فعلاً عن الولايات المتحدة، أو الأفضل، معادية لها، في مهمّة تقصّي الحقائق في الميدان. وفي ظلّ مثل هذا الغياب، وحالة التعبئة الهستيرية على المستويات الأيديولوجية والسياسية والإعلامية في طول الغرب وعرضه، لن نعرف سوى ما تريد هيئة أركان الحرب الغربية على روسيا أن نعرفه. من يدعونا إلى الوثوق بلجان التحقيق «المهنيّة والمستقلّة» التابعة للأمم المتحدة أو لإحدى هيئاتها، نردّه لسابقتَي لجان التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، ولجنة التحقيق الدولية في لبنان، والوظيفة التي قاموا بها في إطار الاستراتيجية الأميركية. أمّا ما يسهل إدراكه، فهو التوظيف الجاري حالياً لما جرى في بوتشا، أي تحويل النزاع العسكري بالوكالة بين «الناتو» وروسيا، إلى مواجهة شاملة تحت شعار «التدخل الإنساني» وحماية المدنيين من القتل الجماعي. وجد المعسكر الغربي، أي القبيلة التي تتزعّمها واشنطن، الغلاف الأيديولوجي لحربه المديدة ضدّ روسيا، والتي يأمل في أن تفضي، على المدى الطويل، إلى إضعافها بنيوياً، وحتى تفكيكها عبر استنزافها عسكرياً قدر المستطاع، وعزلها سياسياً، وخنقها اقتصادياً ومالياً، حتى ولو توقّفت العمليات العسكرية. نحن أمام منعطف في السياسة الدولية، لن يعيد الأمور إلى ما كانت عليه.


لن تستطيع الولايات المتحدة وحلفاؤها تكرار ما فعلوه خلال «تدخلاتهم الإنسانية» السابقة، كحرب كوسوفو أو العدوان على ليبيا، عبر الذهاب إلى صدام عسكري مباشر مع روسيا لِمَا قد ينجم عن ذلك من مخاطر تَدَحْرج نحو مواجهة نووية. غير أن اتهام القيادة الروسية بارتكاب «جرائم حرب» في بوتشا من قِبَل جميع القادة الغربيين، والدعوة إلى تحقيق جنائي دولي، ومحاكمات لـ»المسؤولين عنها»، أي القيادة عينها، يعني أننا دخلنا طوراً جديداً من المجابهة مع هذه الأخيرة، لن تنتهي حتى لو توقّفت المعارك العسكرية بفعل تحوّلات موازين القوى في الميدان. المطروح ببساطة هو «عقوبات قصوى» على روسيا، أشدّ من تلك التي فرضتها إدارة دونالد ترامب على إيران، للاقتصاص من «مجرمي الحرب» الذين يقودونها، أي حربٌ هجينة تُستخدم فيها جميع أدوات الضغط السياسية والأمنية والاقتصادية والمالية والسيبرانية والإعلامية.
إطالة أمد المعركة العسكرية، وتحويلها إلى وسيلة لاستنزاف موسكو، على رغم ما قد يترّتب على ذلك من مخاطر، بات توجّهاً يلقى قبولاً في أوساط مصنَّفة «عقلانية ومعتدلة»، كتلك التي تعبّر عنها «لوموند» الفرنسية مثلاً. حرصت الأخيرة على إبراز مقابلة أجرتها مع الخبير الجيوسياسي، جان كريستوف مونغرونيي، بعنوان «إنها بداية حرب استنزاف». يقول مونغرونيي إن الروس يصطدمون بمجموعات حرب عصابات مجهّزة بأسلحة متطوّرة تكنولوجياً (techno-guérilla)، ومدرّبة من قِبَل «الناتو»، أظهرت قدرة عالية على مقاومتهم وإلحاق خسائر بهم، لكنها غير قادرة على تغيير مجرى الحرب. المطلوب، وفقاً للخبير، «حتى تستطيع أوكرانيا الاستمرار في المعركة على المدى الطويل، هو تأمين رئة خارجية لها. من دون زيادة نوعية في الدعم العسكري لها، لن تكون النتيجة المستقبلية إيجابية. يجب تأمين قدرات للجيش الأوكراني تسمح له بالانتقال إلى الهجوم المضادّ». يحضّ الكاتب أيضاً على تزويد كييف بأنظمة دفاع جوي طويلة المدى، وبمدرعات وطائرات، وحتى بإنشاء مناطق أمنية في غرب أوكرانيا الواقع على حدود دول «الأطلسي»، وتوسيعها «لتضمّ لفيف وأوديسا، المدينتان الحيويتان بالنسبة إلى مستقبل هذا البلد. وإذا لم يتوفّر إجماع داخل الناتو على مثل هذا القرار، لا ضير من تشكيل تحالف راغبين. قد تنجم مخاطر عن مثل هذا الخيار، لكن السماح لبوتين وحده باتخاذ قرارات جريئة هو أمر بالغ الخطورة». قيل هذا الكلام التصعيدي قبل يوم من «اكتشاف» ما جرى في بوتشا. انضمت اليومية «الرصينة»، في افتتاحيتها، إلى الحملة المطالِبة بالتحقيق الجنائي والادعاء على القادة الروس، وإصدار مذكرات التوقيف بحقّهم. لوهلة، وفي ظلّ حالة هيجان أطلسية تجتاح جميع أطياف المسرح السياسي، يخال للغربيين أنهم ما زالوا سادة العالم، وأن بمستطاعهم إصدار مثل هذه المذكرات والتعامل مع قوة كبرى كروسيا بهذه الطريقة. إضافة إلى هذه الاعتبارات غير العقلانية، فإن أخرى عقلانية، تساهم في تفسير مثل هذا التعامل، مثل القناعة بأن الحرب كشفت هشاشة شديدة لروسيا، وأن جبهتها الداخلية ستتصدّع آجلاً أم عاجلاً. هذه المقاربة الغربية للشأن الروسي تتعامى عن استطلاعات الرأي، شبه المقدّسة من قِبَلها عادةً، لأنها تظهر تعاظماً غير مسبوق في شعبية بوتين في روسيا. هي تتجاهل عمداً أيضاً التقارير التي تظهر التفاف النخب الروسية، بما فيها قطاعات وازنة من تلك الليبرالية، حول الرئيس الروسي، بسبب التعاطي الغربي مع بلادها، كما أوضحت المتخصصة في الشؤون الروسية، فاريدا روستاموفا، في تقرير نشرته على موقعها «فاريدايلي». أخيراً، لا يتطرّق أنصار هذه المقاربة إلى الفشل الكامل للقمّة الصينية – الأوروبية الـ23، التي عُقدت في الأوّل من هذا الشهر، في التوصّل إلى حمْل بكين على عدم دعم موقف روسيا. النخب الغربية ماضية في خيار تصعيد المواجهة في سياق دولي يشهد «تغيّراً تكتونياً»، بحسب جون ماكلوفلن، وهو نائب مدير، ومن ثم مدير تنفيذي للاستخبارات الأميركية في عهدَي كلينتون وبوش الابن، في مقال على موقع «غريد». السياق تكتوني قطعاً، وخيارات الغرب بالمزيد من التصعيد ستكون عواقبها وخيمة.

Exit mobile version