الجمهورية- جوني منير
من حق لبنان ان يراقب مسار القمة العربية التي ستُعقد في السعودية غداً، وان يقرأ ويتمعن في خلفيات السطور التي ستُكتب حوله في بيانها الختامي.
صحيح انّ تاريخ القمم العربية مخيّب، لا بل محبط، الّا انّ القمّة الحالية تحمل اشارات مختلفة عن سابقاتها، خصوصاً لناحيتين: الاولى، تتعلق بالدور الجديد الذي يسعى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لترسيخه، والمتعلق بتزعم السعودية العالم العربي. والثانية تتعلق بالظروف التي ستواكب عودة سوريا بشار الاسد إلى المجموعة العربية، والصورة الجديدة التي ستحملها.
وفي كلا الحالتين، فإنّ لبنان هو اسرع المتأثرين بهذه الانعكاسات، خصوصاً انّه غارق إلى حدود الخطر في أزمة اقتصادية وحياتية خانقة، إضافة إلى ازمة دستورية تتعلق بانتخاب رئيس جديد للبلاد، وهي تهدّد بهدم ما تبقّى من البنيان المهترئ والمتداعي للنظام السياسي القائم، وبالتالي إلى اعادة نبش بنود الدستور، والعبث بمعادلة الحكم القائمة لمصلحة معادلة اخرى تعكس موازين القوى العسكرية القائمة على الارض.
وفي هذه القمة، سيراقب الجميع عن كثب تفاعل الوفود ورؤسائها مع الرئيس السوري بشار الاسد، الذي من المفترض ان يكون قد استبق مشاركته باجتماع مهمّ مع ولي العهد السعودي.
وايضاً سيتمعن المراقبون بتشكيلة الوفد السوري المشارك، وطريقة اختياره. لكن البريق الاعلامي الذي سيواكب البث الحي، لن يلغي السؤال الذي سيبقى حاضراً، ولو في شكل خافت، في كواليس المؤتمر، حول المدى الذي بلغه تمدّد النفوذ الايراني في اربع عواصم عربية خلال حقبة النزاع العسكري الماضية. وطبعاً تبقى دمشق إحدى أبرز هذه العواصم.
فعودة سوريا جاءت كنتيجة منطقية للمصالحة السعودية ـ الايرانية المثيرة في العاصمة الصينية بكين.
وخلال سنوات طويلة دعمت السعودية إلى جانب بلدان اخرى، الجماعات المناهضة للأسد بهدف الإطاحة به، في مقابل دعم ايراني وروسي له أثمر بقاءه في السلطة.
واستتباعاً، فإنّ عودة سوريا برئاسة الاسد إلى صفوف الجامعة العربية والتطبيع مع السعودية، هو انتصار سياسي ومعنوي كبير للنظام القائم، لكنه يبقى مُهدّداً إذا لم تتبعه انتصارات اقتصادية تنعش الاقتصاد المتهالك وتحصّن النظام من غضب الجائعين.
هي حقيقة يدركها النظام السوري ويدرك معها انّ المفتاح موجود لدى العواصم الخليجية والمؤسسات الدولية التي تدور في فلك واشنطن. وهو يدرك اكثر حقيقة التقاطع الدولي ـ الخليجي في وجه النفوذ الاقليمي الايراني. وايران تدرك ذلك جيداً ايضاً. وهي تعرف أنّ نقطة ضعفها القاتلة هي محدودية إمكانياتها المالية في ظلّ العقوبات الدولية المفروضة عليها، ولو انّ تطبيقها حاذر دائماً ايصال الامور إلى مستوى الاختناق.
فطهران تدرك أنّ العواصم العربية الاربع تعاني أزمات اقتصادية ومعيشية خطيرة، وصلت الى العاصمة اللبنانية التي لطالما عاشت رخاءً اقتصادياً وشكّلت تاريخياً ما عُرف بالرئة الاقتصادية التي تتنفس منها دمشق.
وحُكي كثيراً في السابق عن شحنات النفط الايراني لسوريا، والتي لم تعد مجانية منذ اكثر من سنة، ولأنّ طهران تدرك جيداً نقطة ضعفها الاقتصادية، والتي دفعت بالشارع الايراني نفسه لأشهر عدة من الاضطرابات، في مقابل الإغراءات الاقتصادية الخليجية والدولية، جاءت زيارة الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي لدمشق لتحمل معها رزمة اتفاقات طابعها استراتيجي، لتضمن الحضور والتأثير الايراني مستقبلاً، وفي خطوة استباقية لأي مستجدات خليجية ودولية مع دمشق. فإعادة الاعمار المقدّرة بنحو 400 مليار دولار، وتوفير الإغاثة العاجلة، تعنيان الحاجة الملحّة للتمويل الخليجي والدولي السخي. لكن في السياسة الدولية لا وجود للعواطف بل للمصالح، وبالتالي لا وجود لتقديمات مالية مجانية. وهو ما يعني انّ ما دون الوصول إلى هذه المرحلة مسافة كبيرة، يدرك الاسد جيداً متطلباتها. وخلال زيارة رئيسي لدمشق، تحدثت بعض المعلومات عن تحضيرات لأن تشمل جولته مدينة حلب المهمة جداً استراتيجياً والقريبة من تركيا، والتي سعى الحرس الثوري إلى تركيز حضوره فيها بعد تحريرها، لكن الزيارة لم تحصل وتمّ حصرها بالعاصمة دمشق. واياً تكن التبريرات لإلغاء هذه المحطة المهمّة والتي لن تلامس جوهر الحقيقة، الّا انّ من المنطقي الاعتقاد أنّ النظام السوري الساعي بإلحاح للحصول على «الاوكسيجين» المالي لاقتصاده، ملزم بأن يقدّم شيئاً ما.
وفي المقابل. صحيح انّ تعاوناً يحصل بين دمشق وعمان لتصفية المهرّبين الذين ينشطون في جنوب سوريا، لكن النظام السوري يدرك انّ هذا غير كافٍ وهو في حاجة لخطوات سياسية ليقدّمها. وخلال الايام الماضية ظهرت رسائل نصية على هواتف عدد من الذين يتعاطون التهريب في محافظتي درعا والسويداء لتسليم انفسهم للجيش الاردني، مع تهديدات بتصفية الرافضين. ومن المنطقي الاستنتاج أنّ ذلك ما كان ليحصل لولا مساعدة السلطات السورية. ولكن المطلوب هو خصوصاً في السياسة والخريطة الديمغرافية. أضف الى ذلك، انّ الانتخابات التركية ستعيد تجديد قوة التركيبة الحاكمة والتي تحمل عقيدة «الاخوان المسلمين»، وحيث دلّت الاستطلاعات الاخيرة إلى رضى واسع في بلدان المنطقة لمصلحة السياسة التركية، وصلت الى 72% في الاردن و69% في فلسطين و44% في العراق و48% في لبنان.
وهو ما يعني انّ على الاسد استعادة سياسة والده الدقيقة والمحسوبة بعناية، والبحث عن الاوراق المفيدة والتقاطها. وبعيداً من المواقف الرنانة، فإنّ الجميع يدرك أنّ «اتفاق بكين» انما يهدف لوقف النزاع العسكري الصاخب بين ايران والسعودية، واستبداله بتنافس سياسي خافت، وانّ التوازنات السياسية والميدانية في سوريا ولبنان تؤثر مباشرة على المصالح السعودية من خلال الممر الاردني.
وبالتالي، فإنّ الاسد الذي من البديهي ان يعمد الى إظهار التبدلات التي حصلت ميدانياً في الآونة الاخيرة لمصلحة الدولة في دمشق وصولاً الى حدودها الجنوبية، وإلى إعطاء وزارة الأوقاف حيزاً اكبر، قد يجد اوراقاً مساعدة على الساحة اللبنانية. ويُحكى مثلاً عن عودة الدفء الى العلاقة السورية مع بعض الشخصيات السنّية البقاعية والشمالية. أضف الى ذلك ورقة الاستحقاق الرئاسي، والتي ستترافق مع تركيبة جديدة للمرحلة المقبلة.
وعلى رغم من انّه لم تظهر اي اشارة سورية علنية، الّا انّ البعض يعتقد انّ دمشق كانت منزعجة ضمناً للإثارة المفاجئة لملف النازحين السوريين في لبنان وموضوع عودتهم، في وقت تريد ان يستبق ذلك إقرار مساعدات مالية كبيرة. ويدرك الاسد جيداً الاهتمام الاوروبي والدولي بالخطر المحدق بالكيان اللبناني وتركيبته الديمغرافية، وهو قد يكون يطمح لاستثماره. وفي هذا السياق سيزور اليوم النائب جبران باسيل روما، وسيلتقي مسؤولين فاتيكانيين، بعد زيارة مماثلة لنائبي»القوات اللبنانية» الاسبوع الماضي. وسيحضر ملف النازحين السوريين إلى جانب ملف الأزمة الرئاسية. مع الاشارة ايضاً الى تواصل فرنسي مكثف معه في هذا الاطار.
تبقى الاشارة الاخيرة، إلى خطوة نادرة قامت بها السلطات السورية باعتقال قاتل احد ضباط الجيش اللبناني المتقاعدين وتسليمه للجيش اللبناني وتوزيع الخبر في وسائل الاعلام. فهل انّ المسألة هي في إطارها القضائي البحت ام انّها قد تحتمل تحميلها أبعاداً اخرى؟
فلنراقب كواليس القمة العربية جيداً.