«لم أعد أرى إخوتك». قبل شهرين من رحيلها، فهمت أمّ عزيز الديراوي أن خيط الأمل الذي يجمعها بقضية أولادها الأربعة المفقودين سينقطع. تنبّهت الأمّ التي عاشت نصف عمرها بين خيمة أهالي المفقودين ورصيف الصليب الأحمر الدولي أنّها ستلقى مصير نايفة وأوديت وأمّ إبراهيم وغيرهنّ ممّن فارقن أعمارهنّ من دون أن يعرفن مصير أبنائهنّ. قبل أسبوعٍ، ماتت أمّ عزيز ودفنت معها صور أولادها الأربعة، ولم تترك خلفها سوى بصمة «دي إن إي»
في السابع عشر من أيلول من عام 1982، حملت آمنة بنات آخر «6 ربطات خبز» إلى مقرّ عمل أبنائها في مبنى بنك «مبكو» عند السفارة الكويتية. من بعد هذا التاريخ، صارت آمنة تقصد السفارة الكويتية، ترابط عند المستديرة، وتنتظر الشاحنة التي أقلّت أولادها الأربعة إلى غير رجعة… ومن بعدها، فقدت اسمها آمنة لتصبح أمّ المفقودين الأربعة، عزيز وإبراهيم ومنصور وأحمد.
أمّ المفقودين
أربعون عاماً قضتها أمّ عزيز الديراوي على الأرصفة، من رصيف بعثة الصليب الأحمر الدولي، إلى رصيف أمّهات المفقودين، وبينهما عشرات الأرصفة التي كانت تبحث فيها عن أبنائها، أو تطالب بالكشف عن مصيرهم. تحوّلت خلال تلك السنوات إلى أيقونة أمّهات المفقودين، ليس لأنها كانت تتابع كل التفاصيل، وإنما لأنها الأكثر فقداً، «عندها أربعة… مش هيّن»، يقول ابنها نظيم الذي عايش وجع أمّه. ولأنها كذلك، قضت أمّ عزيز أكثر من عشر سنوات في خيمة أمّهات المفقودين التي أقيمت لسنوات أمام مقرّ الإسكوا، كانت خلالها «الراوي» الأكثر صدقاً وإلماماً بقضية المفقودين، فلم تحصرها بأبنائها الأربعة فقط.
اليوم، بعد أربعة عقودٍ من الحزن، ترحل أمّ عزيز، كما رحلت قبلها أوديت سالم وأمّ إبراهيم زين الدين ونايفة النجار وغيرهنّ الكثيرات، من دون أن تعرف شيئاً عن مصير أولادها الأربعة، لتختم بذلك مسيرة لقّبت خلالها بالأيقونة ورمز قضية المفقودين، إذ ظلّت «تناضل» حتى أقعدها المرض قبل بضع سنوات.
الرحلة الأخيرة
اعتاد نظيم أن يطمئنّ إلى أمّه كل يومٍ صباحاً من نافذة غرفة نومها، يراقب أنفاسها. وعندما يركن قلبه إلى صوت أنفاسها، يغادر إلى عمله. في اليوم الذي سبق رحيلها، حضر نظيم كالعادة ووقف عند النافذة. لكن، لم يعجبه ما سمعه. كانت أنفاسها متثاقلة ومتقطعة. دخل إلى الغرفة، ووضع يده بالقرب من فم أمّه ليقيس أنفاسها، عندها استيقظت وقالت له بأنها «منيحة». يعرف ابنها بأنها لم تقل ذلك لأنها «بالفعل جيّدة»، ولكن لأنها كانت تكره الدخول إلى المستشفى. مع ذلك، أصرّ نظيم على الإجراء، ولمّا لم تفلح في ثنيه عن تلك «المهمّة»، فتحت ذراعيها كي يحملها.
إلى مستشفى حيفا، انتقل بها نظيم، حيث أودعت لحظة دخولها في غرفة العناية الفائقة، بعدما تبيّن أن نسبة السكّر في الدم قد انخفضت إلى ثلاثين. أعطوها حقنة رفعت نسبة السكر إلى ثمانين، إلا أنها لم تفلح في إعادة الوعي لأمّ عزيز. عند الثالثة عصراً، كان القرار بنقلها إلى مستشفى الهمشري في صور لكونها تحتاج إلى عدّة فحوص، منها فحوص للكلى غير متوفرة في مستشفى حيفا. لا يعرف نظيم كيف خرج بوالدته من هناك في الإسعاف المجهزة. يذكر اليوم بعد غيابها أنه «ابتلع» الطريق بين بيروت وصور وفقط، ففي غضون ربع ساعة كانت الإسعاف قد حطّت في المستشفى وهو خلفها في السيارة.
أدخلت سريعاً إلى غرفة العناية الفائقة حتى اليوم التالي.
في الصباح، دخل نظيم فوجدها نائمة، فأخذ يرفع صوته ليعلمها بأنه هنا إلى جانبها «يمّا أنا حدّك هون سامعتيني»، فأومأت برأسها. أكمل حديثه «يمّا رح نعمل شوية فحوصات ونرجع على البيت». هذه المرّة لم تجب أم عزيز. اقترب كما عادته من فمها ليطمئن إن كانت تتنفس، إلا أن ظنّه خاب، لم يشعر «بنفسها على يدي». خرج وأخبر الممرضة بذلك، ثم «رأيت أربعة أطباء يدخلون ويطلبون مني أن أبقى خارجاً». بعد وقتٍ قليل، خرج الطبيب الأول ولم يقل شيئاً عن حالتها سوى «أننا نحاول»، ثم خرج من بعده الطبيب الثاني، ولما سأله نظيم عن حالة أمّه، قال له «ألستَ رجلاً مؤمناً»، فما كان من نظيم إلا أن قال له «أوعك تقلّي الله يرحمها».
في مستشفى الهمشري، انتهت رحلة أم عزيز. طوت 93 عاماً، قضت نصفها فاقدة أولادها. خلال تلك الرحلة، كان أبناؤها يعرفون بأن أمّهم «محبوبة»، ولكن ما لم يعرفوه بعد فقدها أن «هلقد وزنها»، يقول نظيم. فقد فوجئ هؤلاء بأعداد المشاركين في جنازتها، حيث خرج المخيم كله وجلّ من يعرفها من الناس والقيادات «التي توحّدت في عزاء أمي»، كما فوجئوا بأعداد المتصلين من السفارات ومن ناس عاديين مغتربين. يذكر نظيم من الاتصالات والرسائل «المطران عطا الله حنا، والمتصلين من السفارات: السويد والدانمارك وبلجيكا وألمانيا».
غائبون… حاضرون
حتى اللحظة الأخيرة من عمرها، لم تنس أمّ عزيز أنّ لها أربعة مفقودين. بقيت عيونها معلّقة إلى الجدار الذي علّقت عليه صور الأربعة، مرتّبة إياها بحسب أعمارهم: عزيز أولاً ومن ثم إبراهيم وبعده منصور وآخرهم أحمد. تقول حفيدتها سماح، ابنة نظيم التي كانت تنام مع جدتها في البيت، إن جدّتها لم تفرّق بين محبة واحدٍ وآخر، ولكن كان يؤلمها أحمد صغير البيت الذي لم يترك خلفه شيئاً. فالبقية تركوا أولاداً، أما هو فقد ترك «حسرة».
لا يزال كلّ شيءٍ على حاله في البيت الذي فقد أمّه. فكل التفاصيل في الصالون وفي غرفة النوم وفي الحديقة على «حطّة إيد ستّي»، تقول سماح. كانت تفاصيل أمّ عزيز معروفة: صور الغائبين وأشياؤهم. ولم يكن ثمّة متّسع في الجدران لغير الصور. وزّعت أمّ عزيز تلك الصور في صدر الدار، وعلى باب غرفة نومها، وعلى حافة سريرها «قبالة عينيها»، تقول سماح. وفي غرفة نومها، في كل مكانٍ، يمكن أن تمدّ إليه يدها، وضعت صوراً صغيرة لأبنائها. تحت الوسادة، وتحت سجادة الصلاة وبين أغراضها الشخصية على الطاولة بجانب السرير. وفي تلك الصور، كان العمر واحداً لكلّ واحدٍ منهم في إطارات مختلفة. صور كثيرة لأعمارٍ واحدة توقّف عدّها عند أيلول 1982. وما بعد هذا التاريخ، كانت أمّ عزيز ترسم صوراً متخيّلة لأولادها. ولا يذكر أولادها المتبقّون وهم 7 (4 شباب و3 بنات) أنها عدّلت في يومياتها، فمنذ أيلول من عام 1982، عاشت أمّ عزيز التفاصيل نفسها يومياً، ويروي ابنها نظيم أنها كانت تستيقظ صباحاً وتذهب إلى خيمة أمهات المفقودين وتعود إلى البيت متأخرة، ولم يتغيّر «روتينها»، إلا بعدما أقعدها المرض عن الخروج، حيث باتت تقضي يومها متنقلة ما بين الصالون وغرفة نومها والحديقة… وعلى الهاتف «مع وداد حلواني أو محمد صفا وغيرهما تسألهم عما هو جديد». وكان السؤال الوحيد الذي يلازمها «هلأ شو بيكونوا عم يعملوا؟». وتروي ابنتها سناء أن الأسئلة كانت ترافقها في كلّ شيء «عندما تأكل، تسأل بيكونوا أكلوا؟ وعند النوم، تسأل بيكونوا مغطايين؟ وفي البرد تسأل بيكونوا لابسين؟»
في آخر أيّامها، حرص أولادها على عدم تذكيرها بشهر أيلول، كما حرصهم السابق على عدم تسمية أيٍ من أبنائهم بأسماء أشقائهم «على الأقل نحن الذين نعيش معها، كي لا نجرحها، شقيقاي في الدانمارك سمّيا إبراهيم وعزيز فقط لأنهما يعيشان خارجاً». وفي السنة الأخيرة، طلب نظيم من أبنائه ألا يفتحوا التلفاز على أيّ مناسبة تخصّ ذكرى الاجتياح. مع ذلك، لم يعبر أيلول بتلك السلاسة التي أرادها فهيم، «فربما شعرت به، وللمرة الأولى قالت لي بطّلت أشوف إخوتك». فهم نظيم أن أمّه لم تستسلم وإنما شعرت بقرب رحيلها، حتى المغتربون شعروا بذلك، ويروي واحد منهم أن أمه قالت له خلال مكالمته الأخيرة معها والتي كان يخبرها فيها أنه سيأتي لزيارتها «يمكن ما تلحق تشوفني».