واحدة تلو الأخرى تتداعى تسويات الملف اللبناني الشائك، ففي الساعات الماضية وبعد أن كان هناك توجه للدعوة إلى حوار بين الكتل النيابية من اجل تسمية رئيس توافقي، عاد وتراجع الرئيس بري عن الدعوة بسبب تحفظ واعتراض بعض الأطراف لا سيما كتلتي القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر. وبحسب بعض المصادر، فإن بعض القوى ترى في هذه الدعوة مضيعة للوقت في حين أن البلد بأمس الحاجة إلى رئيس توافقي غير تصادمي بعيدًا عن جلسات هي اشبه بالمسرحيات التي لا تجدي نفعًا. هذا الموقف يترافق وسقوط كل التسويات التي كانت في طور التحضير في حال تشكيل الحكومة لتتداعى معها كل الحلول التي تتطلبها الأزمات المتراكمة سيما أزمة الكهرباء.
سبق فرملة هذا الحوار، تأجيل عشاء غير رسمي كانت قد دعت إليه السفيرة السويسرية في لبنان، مدعوين من وشخصيات سياسية وناشطة شملت قوى السلطة والمعارضة والتغييرين على السواء، والمزمع عقده كان في الثامن عشر من تشرين الأول وكان يعتبر تمهيدًا لمؤتمر حواري حول لبنان يعقد في جنيف في الشهر الحالي. أسباب عدة أدت إلى فض هذا العشاء تراوحت بين التلميح إلى أن هذا النشاط يمهد لمؤتمر تأسيسي وتغيير النظام القائم، أو ربطًا بالاستحقاق الرئاسي، وبين الإشارة إلى ملف ترسيم الحدود البحرية في فضاء من التنازلات والتسويات، وهذا الملف الأخير عاد ليتصدر المشهد بعد تراجعه لصالح الفراغ الرئاسي وذلك بعدما أشيع عن إخلال لبنوده في حال فوز رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق بنيامين نتانياهو بترشيح كتل اليمين المتطرف لتشكيل الحكومة، مما دفع رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبناني نجيب ميقاتي للحديث عن الضمانات الأميركية لحماية الملف.
في السياق نفسه، كانت قد عادت عجلة المملكة العربية السعودية بالتحرك من بوابة طرابلس، عندما قام سفيرها وليد البخاري بجولة على فعاليات المدينة متطرقًا إلى اهمية الاستحقاق الرئاسي واحترام المهل الدستورية، لما لذلك انعكاس على استقرار وأمن لبنان. واستكمالًا لنشاطه، أراد السفير زيارة عشائر بلدة الفاعور في البقاع إلا ان التباسًا امنيًّا وتنظيميًّا حال دون اتمام الزيارة. هذه التحركات هي بمثابة إعادة إحياء للبنود المنبثقة عن مؤتمر الطائف والتي تكرس خاصة الوضع الطائفي السني وعدم المساس بـ “صلاحيات الطائفة”؛ وهو، اي اتفاق الطائف، ما زال يحظى بدعم من الولايات المتحدة الأميركية وتمسك المجتمع الدولي وهذا ما ينسجم مع موقف المملكة على ضرورة استدامة الاتفاق والحفاظ على الواقع الذي كرسه.
إزاء هذه التطورات التي تفرضها الضغوطات الخارجية إلى تسوية الملف اللبناني، ترى بعض المصادر أن هناك فرصة لاستغلال الاهتمام الدولي الظرفي بلبنان، خاصة ان العالم باسره يتفرغ لاحقًا للأزمات التي ستلحق بأوروبا من اسعار الوقود والتدفئة والغذاء، نتيجة الحرب الأوكرانية وتداعياتها.
إذا، التسويات المتوقعة تخضع من الآن وصاعدًا إلى مسارات علائقية لدول الإقليم والعالم بأسره، بما يضمن المصالح المشتركة المتبادلة بين كل القوى، وما مسألة ترسيم الحدود البحرية إلّا دليل على ذلك، بعدما انصبت جهود الادارة الاميركية لإقفال الملف بالمكتسبات المرضية لطرفي النزاع مع تجنب تحويل تهديدات المقاومة إلى واقع، والتي أجبرت الكيان الصهيوني على التنازل والتراجع عن اعتداءاته على الثروة اللبنانية المائية.
فبعد تراجع الاهتمام الدولي بأزمة كادت أن تشغل العالم بأسره وتوقف الاتفاق النووي الإيراني وفشل المفاوضات التي كانت تجري في فيينا، وفتور التقارب السعودي – السوري في الاونة الاخيرة وتراجع بوادر إعادة الحركة الدبلوماسية بين السعودية وطهران. نجد أن كل التسويات تخضع من الان وصاعدا الى المصالح المشتركة المتبادلة بين كل القوى السياسية والتي شهدنا آخرها قضية الترسيم مع دولة فلسطين “الكيان” والتي بذلت الادارة الاميركية كل الجهود وانصبت على تعويم اتفاق الترسيم، مع العلم ان اسرائيل كانت جاهزة لهكذا خطوة وخاصة فيما خص جزر كاريش التي بدأت فعلياً باستخراج النفط منها بعدما توقفت عن ذلك بفعل التهديدات التي قامت بها قوى الأمر الواقع التابعة للمقاومة والتي أجبرته على التنازل والتراجع عن بعض الحقوق العائدة للثروة المائية اللبنانية وما تحتويه من خزائن نفط وغاز.
في المحصلة يبدو أن الضجيج والفوضى العارمة تطغى على كل التسويات التي كانت ستحصل من إمكانية التوافق لإنتخاب رئيس وتشكيل حكومة لملء الفراغ، والدفع باتجاه معطيات من شأنها التخاطب بين الأفرقاء بعد سد أبواب الحوار، أقله على مستوى إدارة الأزمات التي لا بد من هيئة تنفيذية للوصول إلى حلول بالحد الأدنى.