أفكار غربية مِن خارج الصندوق: روسيا هي مَن يكسب الحرب

الاخبار- وليد شرارة

خلال الأشهر الماضية، أعرب عدّة مسؤولين أميركيين وغربيين عن اقتناعهم بأن الحرب في أوكرانيا ستكون طويلة. آخر هؤلاء هو الأمين العام لحلف «الناتو»، ينس ستولتنبرغ، الذي دعا من واشنطن، بعد لقائه الرئيس الأميركي، جو بايدن، في الثاني من الشهر الحالي، الغرب إلى الاستعداد لحرب استنزاف مديدة في هذا البلد. عكس هذا الاقتناع في الواقع توجّهاً غربياً للسعي لتحويل أوكرانيا إلى «أفغانستان جديدة» بالنسبة إلى روسيا، من أجل إضعافها وإلحاق هزيمة بها، كما جرى مع الاتحاد السوفياتي السابق. يتساءل بعض المراقبين «الخبثاء» عن «العقل الفذّ» الذي يقف خلف مثل هذه الاستراتيجية. ارتبط «الفخّ الأفغاني» باسم زبيغنيو بريجنسكي، أحد كبار الاستراتيجيين الأميركيين، ومستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي آنذاك، جيمي كارتر. أراد بريجنسكي، البولوني الأصل والشديد العداء للسوفيات، الانتقام لهزيمة فيتنام عبر إلحاق أخرى شبيهة بها بموسكو في بلاد الأفغان. جميع حروب أميركا الكبرى في النصف الثاني من القرن العشرين، بمعزل عن نتائجها الفعلية، أدارها أصحاب خبرة لا يستهان بهم في الشؤون الاستراتيجية والدولية كهنري كيسنجر وروبرت ماكنمارا وجورج بوش الأب وجيمس بايكر، وآخرين. مَن هو «السيد» أو «السيدة» أوكرانيا، كما يلقَّب عادةً المكلّفون بالإشراف على ملفّ محدّد في الإدارات الأميركية، في فريق بايدن؟ هل هو جايك سوليفان، مستشار الأمن القومي، أو أنتوني بلينكن، وزير الخارجية، أو فيكتوريا نولاند، مساعدة وزير الخارجية للشؤون السياسية، أو غيرهم؟ أقلّ ما يمكن أن يقال بالنسبة إلى نتائج الحرب بعد أكثر من 100 يوم على اندلاعها، ولتداعياتها الاستراتيجية والاقتصادية الإجمالية، هو أنها مخالفة، ومتناقضة في العديد من المجالات، مع «التوقّعات» الأميركية والغربية.

لم تمنع المواجهة المحتدمة في أوكرانيا، فلاديمير بوتين، من التأكيد، في الخطاب الذي ألقاه أمام «منتدى بطرسبرغ الاقتصادي الدولي»، أن العالم الأحادي القطب قد انتهى، على رغم المحاولات المضنية لإحيائه، وأن الثقة في العملات العالمية تقوّضت كرمى للطموحات والأوهام الجيوسياسية التي عفا عليها الزمن. قد يكون الأنكى بالنسبة إلى بايدن وفريقه هو مشاطرة شخصيات أميركية وازنة لمِثل هذه الاستنتاجات، والإعلان عنها في مداخلات علنية ومقالات، ما يسهم في المزيد من إضعاف الإجماع الداخلي حول سياسات هذا الفريق. التداعيات الكارثية لحروب أفغانستان والعراق الكارثية على الموقع الدولي لواشنطن، لم تشفها من إدمانها على الحروب المباشرة، أو تلك التي تُخاض بالوكالة، ظنّاً منها أنها ستوقف انحدارها. وعلى الرغم من أن أصواتاً بارزة، محسوبة تاريخياً على المؤسسة الحاكمة، أو أخرى معارضة، كبرنت سكوكروفت، مستشار الأمن القومي لبوش الأب، أو بريجنسكي المذكور سالفاً، أو إيمانويل والرشتاين، حذّرت مراراً من مغبّة المضيّ في هذا النهج، فإن صنّاع القرار المتتالين لم يكترثوا لتحذيراتهم.

الجديد بالنسبة إلى الحرب الدائرة مع روسيا في أوكرانيا راهناً، هو أن التحذيرات صادرة هذه المرة عن شخصيات شاركت بقوة في الحرب الباردة ضدّ الاتحاد السوفياتي، وأدّت إحداها، والمقصود هنري كيسنجر، دوراً حاسماً في استكمال تطويقه عبر هندسة صفقة استراتيجية مع الصين نجحت في استمالتها إلى واشنطن ضدّه. عارض كيسنجر، في كلمته أمام «منتدى دافوس» الأخير، الهدف الأميركي من الحرب، والذي أفصح عنه وزير الدفاع، لويد جونسون، والمتمثّل في إضعاف روسيا، معتبراً أن «المفاوضات يجب أن تبدأ خلال الشهرَين المقبلين قبل أن تؤدي الحرب إلى اضطرابات وتوترات لن يكون من السهولة بمكان التغلّب عليها. ومن الأفضل أن يكون الهدف هو العودة إلى الوضع السابق على اندلاعها»، أي الموافقة على تقديم أوكرانيا تنازلات لروسيا، عبر التخلّي عن أراض لها. وهو طالب القادة الغربيين بعدم «الانجراف في مزاج اللحظة» (in the mood of the moment)، وبإجبار أوكرانيا على التفاوض.


محارب آخر من زمن الحرب الباردة، وهو غراهام فولر، أدلى بدلوه في النقاش الدائر حالياً. وفولر، لِمن لا يعرفه، عمل لمدّة 27 عاماً مع المخابرات المركزية ووزارة الخارجية الأميركية، وهو عُيّن من قِبل الوكالة نائباً لرئيس المجلس الوطني للاستخبارات في 1986. فولر متخصّص في الشؤون الشرق أوسطية والروسية، وخبير في الحركات الإسلامية، ويُحسب أنه من دعاة «انفتاح» واشنطن عليها، وكان لدراساته ومقالاته الكثيرة عن هذا الموضوع تأثير أكيد على اتخاذ قرار الحوار معها من قِبل إدارات أميركية متعاقبة. هو رأى، في مقال على مدوّنته بعنوان «بعض الأفكار الجادة عن ما بعد الحرب في أوكرانيا»، أنه «على العكس من البيانات الانتصارية لواشنطن، فإن روسيا هي مَن يفوز في الحرب، وأوكرانيا مَن يخسرها. أما بالنسبة إلى خسائر موسكو الطويلة الأمد، فهي قابلة للنقاش. العقوبات الأميركية ضدّها اتّضح أن مفاعيلها كارثية على أوروبا أولاً. الاقتصاد العالمي يتباطأ، والعديد من البلدان النامية تعاني من نقص في المواد الغذائية وقد تتعرّض لخطر مجاعات واسعة… ستندم أوروبا الغربية على اليوم الذي انقادت فيه بشكل أعمى خلف الولايات المتحدة للتورّط في حرب ليست أوكرانية – روسية، بل أميركية – روسية تُخاض بالوكالة حتى آخر أوكراني». وهو يشير إلى أن مصادرة الموجودات الروسية في البنوك الغربية تحفّز بقيّة العالم على إعادة النظر في الاعتماد الحصري على الدولار كعملة احتياطية: «لقد بات تنويع الأدوات الاقتصادية الدولية مطروحاً، وهو سيُضعف موقع واشنطن الاقتصادي المهيمن سابقاً، واستخدامها الأحادي للدولار كسلاح». ويختم فولر لافتاً إلى أن الشراكة المتعاظمة بين موسكو وبكين هي الرهان المستقبلي لروسيا، التي تمتلك «علماء لامعين، ووفرة في مصادر الطاقة والمعادن النادرة، والتي سيكون فيها لقدرات سيبيريا الزراعية أهمية فائقة في ظلّ الأزمة البيئية. الصين لديها الرساميل والأسواق والقوة الإنتاجية للمساهمة في بناء شراكة طبيعية معها في أوراسيا».

جوزف ستيغليتز، أحد كبار اقتصاديّي «البنك الدولي» سابقاً، والناقد المعروف للعولمة النيوليبرالية، لم يشارك في الحرب الباردة، غير أنه لا يكنّ ودّاً خاصاً لروسيا. هو رأى في مقال بعنوان «كيف يمكن أن تخسر الولايات المتحدة الحرب الباردة الجديدة»، أن من الأفضل للولايات المتحدة، التي تبدو جادّة في منافستها للصين على الريادة العالمية، أن تركّز على إعادة ترتيب بيتها الداخلي. هي لا تريد أن تُزاح عن موقعها المهيمن، لكن الأمر حتمي، لأن عدد سكان الصين 4 أضعاف عدد سكانها، ولأن اقتصاد الأولى ينمو بوتيرة أسرع بثلاث مرّات من سرعة نموّ اقتصادها. الأسوأ بنظر ستيغليتز، هو فقدان واشنطن صدقيّة نموذجها وجاذبيته أمام بقيّة شعوب الكوكب، بسبب حروبها العدوانية، واستشراء العنصرية والفوارق الاجتماعية في داخلها. وقد كشفت الأزمة المالية والاقتصادية في 2008 وجائحة «كورونا» هشاشة نموذجها، وكذلك انتخاب دونالد ترامب والانقسام السياسي الذي نجم عنه ومحاولة «الكابيتول» الانقلابية عند خسارته الانتخابات في 2021. هي ليست مؤهّلة لإعطاء الدروس وقيادة جبهات عالمية ضدّ الصين، «التي لم تعط دروساً، لكنها قدّمت للبلدان النامية بنى تحتية حيوية بالنسبة إليها».


قد لا تلقى هذه الآراء آذاناً صاغية بين صنّاع القرار في واشنطن، لكنها ستجد اهتماماً بين النخب وفي أوساط الرأي العام، وخاصة مع اشتداد التضخّم والأزمة الاقتصادية – الاجتماعية المرشّحة للتفاقم، والوثيقة الصلة بتداعيات الحرب في أوكرانيا. أصبحت أغلبية الأميركيين وبقيّة شعوب العالم تعرف أن المحافظين الجدد هم المسؤولون عن تسارع الانحدار الأميركي بسبب السياسات التي أوصوا بها، وهم سيهتمّون بلا شك بمعرفة «العقل المدبّر» للحرب على روسيا، والتي لم تنجم عنها حتى اللحظة سوى الخسائر.

Exit mobile version