أحمد قصير.. رمزاً مقاوماً وعنواناً للسيادة الوطنية
كتب النائب محمد رعد في “الديار”:
يوم اقتحم الشهيد أحمد قصير بسيارته وقامته الاستشهادية مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور ودمّر كل طبقاته وقتل أكثر من 120 جندياً وضابطاً صهيونياً غازياً للبنان، قيل بعد ذلك أنّ العدو سيدمّر البلاد بذريعة ذلك العمل الاستشهادي.. وبالفعل قام العدو الصهيوني بتدمير مناطق سكنية وأبنية ومشاريع بهدف ترويع اللبنانيين وإخضاعهم للقبول بما كان يحضّره لهم من نظام سياسي جديد سرعان ما أعلن عنه عبر مسودّة نص كان يريد من السلطة اللبنانية آنذاك أن توقّعه في 17 أيار للعام 1982، وفيها ما يجعل لبنان محميّة إسرائيليّة خاضعة لما يُقرّره العدو الصهيوني من سياسات وما يُريده من خدمات وتلبية مصالح. ولو كانت المقاومة آنذاك توقفت عند نصائح المهوّلين فزعاً من قوة الصهاينة وقدرتهم التدميرية لما سقط اتفاق 17 أيار ولما تحرّر لبنان بعد سنوات من المقاومة المتصاعدة والجادة والمسؤولة. نحن اليوم في ذكرى الاستشهادي أحمد قصير ويوم شهيد حزب الله الذي صار أكثر جلالاً ودلالةً بعد شهادة سماحة سيد المقاومة الأسمى وقائدها الشهيد حسن نصر الله وعددٍ من قادة الرعيل الأول في المقاومة، يتكرّر نفس القول والكلام الصادر عن المرجِفين المثبّطين الذين يشيعون الإحباط واليأس والتململ ويُولولون على الدمار والخسائر، متجاهلين أنّ ذاك هو ديدن العدو المتوحش والارهابي الذي يحاول أن يثير الرعب والهلع في صفوف الناس عبر تهجيرهم وتدمير بيوتهم وملاحقة كل ما يؤذيهم من أجل أن يسقطهم أرضاً، ويفصلهم عن المقاومين وعن تأييد خيارهم ودعمهم، كل ذلك من أجل أن يضغط على المقاومة، علّه يدفعها للتراجع عن مواصلة تصدّيها ومواجهتها لعدوانه ومشروعه، ويستبيح بعد ذلك الوطن وأهله وسلطته وسيادته وفي أحسن الأحوال يُحوّل من يقبل الإذعان له إلى خادم لمصالحه، وحارس لأمنه ومرتزق في حروبه العدوانية التالية.
في ميزان الواقعية والعدالة، المقاومة
باتت أكثر مشروعية وضرورة في عصرنا الحديث كذلك:
في حين كان الاحتلال الغاشم لأرض الغير بالقوة، يتطلب من مدّعيه حماية الحقوق »والحراس الدوليين للعدالة» كما يسمون أنفسهم، شرعنة الدفاع عن النفس والوطن بنص القانون، ومنح المقاتلين من أجل الحرية حقّ المقاومة المقدس ضدّ الاحتلال.. كانت قوى الهيمنة لا تمانع ذلك لأنه يغطي طغيانها بعنوان الالتزام المخادع بالقيم والمبادئ الأخلاقية والإنسانية. ونتيجة كثر الاحتلالات في العالم، وكثرة المقاومات الشرعية والشعبية ضدّها، امتنع النافذون الدوليون عن أن يظهروا دعمهم للمحتلين ليس لاعتراضهم على جريمة احتلالهم لأرض الآخرين، بل تجنّباً وتلافياً لازدراء الشعوب لهم ولافتضاح تورطهم ومساندتهم للمحتلين.. ومع تطور النفوذ والنمو السريع لوسائل التواصل والإتصالات وتقدم تطبيقات الذكاء الإصطناعي وفنون التمويه والخداع دخل العالم عصر التزييف والسقوط الأخلاقي وصار بإمكان قوى ودول النفوذ والسيطرة أن تبدّل الانطباعات والأحكام التي تسري بين الشعوب على امتداد المعمورة، بل صار بالإمكان التحكم بالوقائع وسردها تبعاً لمتطلبات العدوان المزمع على بلد أو جهة أينما كانا في العالم. إلا أن ذلك قد ينطلي على الرأي العام لفترة قصيرة ولكن سرعان ما ينكشف ولو بعد فوات الأوان. لقد روّج الكيان الصهيوني وساعدته آلة الدعاية والتسويق الإعلامي في معظم دول الغرب وبدعم من حكوماتها، لسردية كاذبة ومشوّهة للوقائع التي حدثت إبّان تنفيذ كتائب القسام للعملية البطولية والنوعية والتي سميت بطوفان الأقصى، وفبرك الكيان الصهيوني ادعاءات وشهادات كاذبة بل مشاهد ملفقة ومخادعة ومدبلجة لا تعكس الحقيقة بل تؤسس لسيناريو التوحش والاستباحة التي قرر قادة الكيان الصهيوني بتواطؤ ودعم من الإدارة الأميركية وعدد من حكومات الغرب الأخرى، الشروع به ضد غزة وشعبها والقيام بتنفيذ إبادة جماعية لأهل غزة رجالاً ونساءً وأطفالاً، وتدمير كل معالم الحياة المجتمعيّة المدنيّة وترحيل من يتبقى منهم أحياء إلى حيث التيه والموت أو القهر. وللأسف الشديد فإنّ هذه السيناريو جرى تنفيذه وسط صمت مطبق ومريب إقليمياً ودولياً على صعيد الحكومات والمنظمات الإقليمية والدولية ما خلا استثناءات نادرة.. فيما بعد، انكشفت بوضوح كل أكاذيب ادعاءات ما سمي بالالتزامات الغربية لجهة الحرص على الأمن والسلم العالمي أو لجهة حماية حقوق الإنسان لو لجهة احترام الشعوب وحقوقها في التحرّر والسيادة والاستقلال، وتهافت بل سقط صنم القانون الدولي الذي صنعه وصاغه المستكبرون من تمر مصالحهم حتى إذا جاعوا أو قرروا تجاهله، ابتلعوا ذلك الصنم وسخروا من كل شعوب الأرض المظلومة والمخدوعة بهذه الأكذوبة والمؤسسات المنبثقة عنها. أوليس مثيراً للتقزز أن يُدّعى على مدّعي عام المحكمة الجنائية الدولية بجرم التحرش، فقط عندما لوّح بإصدار مذكّرة توقيف بحق السفّاح المجرم نتنياهو وحش الإبادة البشريّة في غزة؟! أوليس من السخف انتظار عدالة من مؤسسات يتحكم بتمويلها وبوظائفها ومن يشغلها والخ…. حكام دول مستكبرة وتسلُّطية ومُهيمنة؟! المقاومة حق إنساني وسياسي وحقوقي مشروع بموجب كل البيانات وبموجب كل الأعراف وبموجب كل القيم والمبادئ الإصلاحية والنزيهة التي توارثتها شعوب وأمم الأرض عبر التاريخ. هذه المقاومة المشروعة ضد كل إحتلال وعدوان غاشم وظالم على بلد أو جهة أو مجتمع… باتت اليوم بعد حرب الإبادة التي شنها الكيان الصهيوني أكثر مشروعيّة وضرورة ولا تحتاج إلى اعتراف رسمي من أحد.. طالما أنّ من يمارس المقاومة أو يلتزم خيار المقاومة يقطن بجوار كيان متوحش كالكيان الصهيوني ممّا لا يُؤمن له ولا يُركن إلى التزاماته الدولية والقانونية والأخلاقية. إنّ مجرد المجاورة لمثل هذا الكيان يمنحك عفواً ومن دون تشريع أو درس أو قرار حق المقاومة والاستعداد الدائم للدفاع عن نفسك وعن وجودك وعن بلدك… إنّ شعوب الدول التي تعيش بجوار الكيان الصهيوني المتوحش والغاصب لأراضي فلسطين ولمقدسات المسلمين والمسيحيين والمهدّد بطبيعته للأمن وللاستقرار.. من حقها المشروع عفواً وتلقائياً أن تتصرف كمقاومة لها دوماً حقّ الاستعداد والتدريب والتجهيز والترصد الدائم لمثل الكيان الصهيوني الذي تلبّس بصفة التوحش التي تسقط كل أهلية قانونية له ليصنّف عضواً في هيئة الأمم المتحدة ودولة تحسب كذلك بقوة التسلّط والهيمنة والدعم من إدارة دولة تحتضن هذا السلوك الخطر على البشرية وعلى المجتمع الدولي برمته.
وفي لبنان، من حق الشعب اللبناني كله وأهلنا المقاومين، الرافضين الاعتراف بالاحتلال الصهيوني، أن يحتفظوا بكل ما لديهم وما يمكنهم من عوامل ووسائل قوة تُمكّنهم من الثبات والصمود والدفاع ضدّ أي عدوان غادر وغاشم وخصوصاً إزاء كيان متوحش إرهابي لا يلتزم بما تلتزم به الدول من قوانين ومواثيق. ولا يستخفّنّ أحد بهذا الحق بحجة حجم الدمار الذي أحدثه العدو متذرعاً لذلك بتصدي المقاومة لعدوانه، فإنّ حجم الدمار يتحمّل تبعاته المعتدي وليس المعتدى عليه، والمتمرّد على القوانين التي لا توافق عدوانه وليس وعلى الملتزم حقّه المقدّس في دفع العدوان وحماية شعبه وبلده… والحق الذي يجب أن يُقال هنا، إنّ المقاومة في لبنان ورغم الدمار الذي تسبّب به العدو.. والتفرّج الذي أحاطته حكومات في المنطقة والغرب لجرائمه.. هي – نعم المقاومة- التي أفشلت أهداف العدو الصهيوني ومنعته من استباحة السيادة اللبنانية وإخضاع الشعب والدولة للانضمام إلى خريطة العدو السياسية للشرق الأوسط الذي كان يعدّ نفسه به.. وثبات المقاومة وبطولة أبنائها وتضحيات سيدها وقادتها ومجاهديها وبيئتها الحاضنة، هي التي حمت لبنان من الخضوع للعدو ولإرادته السياسية والعدوانية، لا بل هي التي فضحت العدو وحقيقة طبيعته العنصرية الإرهابية المتوحشة أمام الأجيال المعاصرة من شعوب العالم بمن فيها شعوب أوروبا والغرب عموماً، ومع ذلك فإن هذه المقاومة لم تتخلَ عن مسؤوليتها في إعادة إعمار ما دمرته الحرب الصهيونية العدوانية التزاماً منها بشعبها ووفاء له وحفظاً لعهدها معه. وبدون صمود المقاومة وثباتها وقوة فعلها الميداني، لن يكون وارداً أو منتظراً أن يتوقف عدوان الكيان الصهيوني عند الحدّ الذي رسمته المقاومة بالنار وظهر له عملياً أنّه غير مؤهل لمتابعة توغله البري. ولن يكون هناك ما يضغط الكيان الصهيوني فعلاً للجوء إلى مجرد الإصغاء لدعوات إيجاد مخرج سياسي يوقف توحشه وعدوانه على لبنان. إنّ كلّ ما جرى يؤكد ويزيد من مشروعية استمرار المقاومة وفاعليتها ويؤكد ضرورتها المتواصلة وليس من مصلحة اللبنانيين جميعاً أن يتسلّل العدو الصهيوني متذرّعاً بتبايناتهم الداخلية الراهنة لكي يرسم في السياسة للبنان ما هو حقّ سيادي بحت لا دخل فيه لأحد من غير اللبنانيين، ولا يُقرّره أحد عنوة عن إرادة اللبنانيين الحرة والمستقلة والوطنية. أحمد قصير.. أيها الاستشهادي البطل إنّ الطريق الذي سلكته نحو تحرير الوطن من الاحتلال الذي كان يصونه ويرعاه على الدوام القائد المجاهد والشهيد الأسمى على طريق القدس سماحة السيد حسن نصر الله رضوان الله تعالى عليه، قد رواه بدمه الزكي الطاهر وبشهادته المباركة بعد أربعين عاماً من استشهادك ليؤكد مع الثلة المخلصة من القادة والمجاهدين الذين قضوا معه وفي خطه، أنّ المقاومة تبقى في لبنان أكثر من ضرورة وأكثر مشروعية، وأي استهداف لها هو استهداف لسيادة لبنان وتحرّره.