كتب صادق النابلسي في “الديار”:
عندما يسمّي الله الأشياء بأسمائها يجب أن نتعلم التسليم، وعندما تصير النجوم تراباً علينا أن نمشي على الصبر، وعندما تذوب العيون السود في الكرى علينا أن نتفيأ ظل الدعاء.
ولكن، يا سيدنا، هل بلغ الحبُّ فينا مبلغاً حتى ظننا فيك أنّك لا تموت؟
هل دخلتْ فينا سموم الأساطير حتى ظننا أنّك كطائر الفينيق تخرج من تحت الرمل والرماد والبارود.
إلى أي حدٍّ التصقتَ فينا حتى صرتَ الضوء في عيوننا، والعشق في قلوبنا، والأمل في دمنا.
نعرفُ أنّك تعبت. تعبت كثيراً. منّا ولأجلنا. ولكننا ما كنّا نتصور الحياة من دونك، ولا النصر بلا يدك المرفوعة إلى السماء.
نعرف أنّ من حقك أن ترتاح، ولكن كيف يرتاح مَن لا تُشرقُ صورتُك البهيّةُ عليه؟
كنتَ ذراعنا، وحمّال أثقالنا، والثلج الأبيض على أوجاعنا، والمنجل في حقولنا، والقلم في مدارسنا..
كنتَ صوتنا، والبسمة على شفاهنا، والعباءة التي تموج ببحر الكرامات، والعمامة التي تضمر في مطاويها أسرار الله.
كنّا حتى قبيل بيان النعي، نحاول باسم الله الرحمن الرحيم، أن نعيدك إلى الحياة، حتى ولو ابتلعنا الغموض الصعب أياماً وأياماً. نصرخ بأقصى صوت فينا، بالكلمات المذبوحة في حلوقنا، أن يطلق القدر سراحك من تحت الركام.
أعرف أنّ الله غالب على أمره. ولكن يخيفنا يا سيدي موتُك، مثلما تُعزّنا شهادتُك.
أنت قدتَ سفينتنا في ثلاثين سنة من العواصف والزوابع والفتن والجراح. اعتدنا وجودك فينا، تُثبّتُ الأرضَ التي عليها نقف، وتمسحُ الحزن عن وجوهنا، وتهدينا ببصيرتك إلى الصراط المستقيم، وترفعُنا بعد كل كبوة إلى قمة تل الشرف.
عندما ينفجر البكاء بجلدنا، هذا لأننا نحبك، ولأنّ بذرتك السحرية أينعت فينا أعمق الأحاسيس خوفاً عليك.
أتممت حياتك كما اشتهيت، يبقى أن نكمل بشهادتك ما نشتهي من النصر والكرامة في طريق جلجلتنا إلى القدس.