الاخبار- الشيخ صادق النابلسي
أنيسي كتابُ الله وآخرُ طائفةٍ من الليل، أصلّي فيها ركعاتٍ من الحب [1].
وبعدها أكتبُ يا ربِّ شيئاً من أشواقي إليك، أملأُ بها قلبي بنورِ وجهِكَ الجميل.
كلُّ شيءٍ كان يقودُني إليك.. اليُتمُ والفقرُ وحلقاتُ العلمِ وحين أرحلُ عن إمامٍ صدريٍّ لأحُطَّ رِحالي عند إمامٍ صدريٍّ آخر، ودروبِ النجفِ وشِعرِها، والسجنِ، وعندما تُثقلُني أحزانُ كربلاء، والمنافي، وعندما تصبحُ بلادي بعيدةً، واللغةُ غريبةً، وعندما تحملُ في أعماقِكَ ذاكرةً من الصَّمتِ.
عندما ولدتُ يتيماً ربيتني، يا إلهي ومليكي، في نعمِك وإحسانِك صغيراً.. وعندما اخترتُ أصعبَ المسالكِ وأقساها، شابّاً وكهلاً وشيخاً، نوّهتَ باسمي كبيراً.
اليُتمُ نعمة. يأخذُني من يدي، ويُمشيني على ماءِ الحياة. يُدحرجُني نحو الأقاصي البعيدة. يشدُّني بأشواقي إلى صور. «المدينةُ التي تسكنُ حريرَ البحرِ». هناك انفتحتْ حواسي على عِمامةٍ سوداءَ، تتصاعدُ سمُوّاً إلى السماء، ووجهٍ كالقمرِ لا يُنسى.
هناك قاسمتَني يا «صدرُ» العلمَ والنورَ، ودرَّبْتَني على المخاطراتِ وسطَ عالمٍ لم يكن طيباً معك.
تُسمعُني روحَك وأحلامَك المليئةَ بالهمومِ والأسرار، وأُسمعُكَ عشقي وقلبي الذي يريدُ أن يهِبَكَ كلَّ شيء.
كم كنتُ أريدُ أن أبقى ها هنا مثلَ فراشةٍ مسكونةٍ بالنور، ولكنَّ سحرَ «الصدرِ الثاني» في النجفِ الأشرفِ يملأُ خيالي، ويَسْكُنُ ذاتي، ويركضُ بي كطفلٍ يُريدُ أن يمتلكَ حلمَه، ويضعَه في جيبهِ. في حجرِك العِلميِّ كُتبَ لي عمرٌ يُضافُ بسخاءٍ إلى عمري الأول. أنا الذي أتيتُك من بحرِ «عيسى بن مريم» إلى صحراءِ «إبراهيم الخليل». أتمكنَ من رؤيةِ ما لا يُرى، ولأصلَ إلى عينِ اليقين، ولألثمَ روحَ الأشياء. أنا لا أعلمُ مَن الذي اخترعَ هذا التبسيطَ بين المنبعِ والمصبِّ في أقدارِنا، ولكنكَ يا سيدي مَن تعلمُ أنّ المسافةَ بين اسمي واسمِك لم تكن سوى القلب. منحتَني حياةً من أبجديةِ الأنبياء، ووطناً لا يُشبهُ الأوطانَ كلَّها… في مجلسك النورُ النورُ، الذي يُغرقُ الروحَ. هناك شربتُ نميرَ العلمِ [2]. هناك.. كنتُ في كلِّ فجرٍ أركضُ وراء ذرّاتِ النورِ التي تحملُ أنفاسَك وروحَك التي ما زالت عالقةً بي.
عندما كنّا في محضرِك كنا نقول، السعادةُ أحياناً وربما دائماً لا تتطلّبُ الكثير، سوى بعضِ الكتبِ، ومجاوَرةِ أميرِ المؤمنينَ، ووجهِ محمدٍ باقر الصدرِ الصبوح.
بين صورٍ والنجف، وضعَني الحبُّ بين شُعلتينِ حارقتين. نارِ الشوقِ إلى موسى، ونارِ الخوفِ على محمد باقر.
أستعيدُكما كما يستعيدُني مَن يَرثيني لأنني لم أجدْ عمراً جميلاً خارج وجودِكما. كنتما مداري ومُنيَتي، قبل أن يأتيَني رجلٌ من قم يوسّعُ الابتسامةَ في عيني، ويجعلُني أذوبُ به كما ذابَ هو في الإسلام.
اسمي عفيف النابلسي
سُجنتُ وعُذّبتُ ثم رُميتُ على الحدودِ السوريةِ العراقيةِ أواخرَ عام 1979 بعد تهمةِ الانتماءِ إلى حزبِ الدعوةِ ومحمد باقر الصدر. أودّعُ العراقَ بآلامٍ مضمرة، وأحزانٍ ذبّاحةٍ لا أملكُ أن أقاومَها إلا على أعتابِ «أمِّ المصائب» [3]. أضعُ قلبي وذاكرتي المنكسرةَ، وأستسلمُ للصلاةِ والدعاء. يستيقظُ فِيَّ تاريخُ الحسينِ كلُّه. الأرضُ لم تغيّرْ مكانَها، ولا الأشخاصَ الذين يتخفّونَ وراءَ لوحةِ الزمنِ تارةً، ويظهرون أمامها تارةً أخرى. على أعتابِ زينبَ أفتحُ عينيَّ على فقدينِ، قبل أن يتسرَّبَ شعاعٌ هاربٌ إلى عينيَّ من سقفِ السماء. أدخلُ بيروتَ بكلِّ مخاطرِ هذه الحافةِ على ليلٍ مشوّه، وبلا موسى الصدر. أُدركُ أني أركضُ صوبَ نارٍ تزدادُ اشتعالاً كلَّ يوم، وعلى عبثيةٍ غريبةٍ في السياساتِ والقوانين، وعلى مجتمعٍ ينامُ على أعظمِ الكذباتِ التي اسمُها الطائفية.
كنتُ أنتظرُ البركانَ العاصفَ الذي يعيدُني إلى مجرى الرسالةِ الأولى. (فاصدعْ بما تؤمر وأُعرض عن المشركين). كنتُ أنتظرُ ذاكَ الإمامَ الذي يُغلقُ كلَّ جراحاتِنا المفتوحة، ويُخرجُ منّا كلَّ تلكَ الذخائرِ والآمال، ويهبُنا نصراً عزيزاً. بعد كل هذه السنواتِ من التيهِ خرجَ الخميني… في لحظةِ ضياعٍ لغويٍّ ونفسيٍّ وسياسيٍّ. يمنحُنا فرصةً مختلفةً للحياة، ونظرةً أخرى للأقدار، ويفتحُ لنا بابَ النصرِ وأنوارِه وأسرارِه.
مع الاجتياحِ الإسرائيليِّ كان العدوُ يريد أن يضعَ شعبي في زاوية الفجيعةِ مجدداً. ولكنّي اهتديتُ إلى أنّ المقاومةَ سيدةُ الكرامات، وأعظمُ أرباح الحياة. لم أكنْ وقتَها أُتقنُ غيرَ حملِ القلمِ والكتاب. بيد أنّي كنتُ أعرف أنّ مَن يمشي على الطريق يَصل، وأنّ الأرضَ التي تستحقُ أن ننتسبَ إليها هي الأرضُ التي على ثغورها يسهرُ المقاومون، وفي ثراها ينامُ الشهداء. حينها، استيقَظَتْ فِيَّ كلُّ حواسِ المقاومةِ الدفينة. بدأتُ أبحثُ عن حرفٍ يشعُّ كالشمس، قاطعٍ بحدِّ السيف، يستنطقُ الأسلحةَ الباردةَ لترميَ على اسمِ اللهِ كلَّ مَن يريدُ أن يملأَ عيونَ اللبنانيين بالسواد. كنتُ كمن يريدُ أن ينتقمَ لأهلي الضعفاءِ لقرونٍ من الذعرِ العلني. كنتُ أريدُ لهم قليلاً من التاريخ، والكثيرَ من الرحمةِ والعزة. بالموادِّ القليلةِ كنّا نصنعُ شرفةً لرؤيةِ شروقِ الشمس. قلتُ للقاعدين: لا يمكنُ الخوفُ من شرٍّ يراه حتى الأعمى. يا سادة، الخوفُ هو الوهمُ الذي يحرمُنا من الحياة. صرختُ..عاتبتُ: هل تعلمون هولَ السكوت؟ قالوا: اعقلْ واهدأْ، ولا تُكابرْ. قلتُ لهم: صحيحٌ أنّ المقاومةَ تجعلُنا في قلبِ النار، ولكنّها تسترجعُ وجوهَنا التي غابتْ وسط ضبابِ المؤامراتِ والخياناتِ والخذلان. في الطريقِ إلى حرّيتي، لا يهمُّ إنْ كوَّنتُ الأعداءَ. كنتُ سعيداً بكلِّ مخاطرِ هذه الحافة، وما همّني أنْ أرى شيئاً آخرَ سوى عمرٍ يُفترضُ أن أملأه بالمقاومة.
كنّا بحاجةٍ إلى دمِ راغبِ حرب حتى نصنعَ بدايةً من المجد. لا حبَّ أجملُ من الشهادة. ألم يكن هذا، يا شيخ راغب، مشتهاك الدفين؟
عندما اخترتُك كنتُ أختبرُ يقيني قبل أن تُدركَنا شهادتُك عند ذاك الفجرِ الضبابي.
حاذرتَ أن توقظَ زهرَ الياسمين، ولكنّك (يا رائدَ الجيلِ هذا الجيلُ يزدحم/ على خطاك فرفقاً أيها العلم) [4].
مع السيد عباس التقينا قلبين منكسرين عليك. ولكنّه سيكون الغائبَ الأكبر بعدك. حاملَ سري وصاحبَ بيتي. لم يأتِ زمنٌ لم أرهُ ولم يرَني. يأتيني في عمقِ الليلِ كشلالٍ من النورِ ليتنصّلَ من بعضِ أتعابِه. نتكلمُ كثيراً ثم ينامُ قليلاً. أتفقده من أنّه هنا، وليس سحابةً أخرى من الشهداء. كنتَ كلَّ شيء حتى تسللتَ إلى السماءِ كما اشتهيت، تضعُ في سري، جملتَك الأخيرةَ تخيطُ حزني، وأصابعَ يديك تنام في روحي.
ذهبَ الذين كنتُ أحبُّهم، تاركين في قلبي كلَّ هذا الرماد.
أيُّ حظٍّ يا ربِّ منحتَني إياه عندما جلستُ على إمامين من أعظمِ العلماء، وعندما زاملتُ شهيدين من أجملِ الشهداء.
اسمي عفيف النابلسي
اُعذُرْني منذُ زمنٍ لم أرَك..
أبا هادي، عذراً إذا جفّ مقولي فأنت بِظنّي أوسعُ الناس في العُذر [5]. عندما كنّا نلتقي كنتُ أُفرغُ بعضَ حمولاتِ القلب.. ولكنّك تعلمُ أنّ الحبَّ ليس رهينَ الأمكنة. المرضُ هو منفىً آخرُ التصقَ بعمري، أضطرُّ معه لكتابةِ رسالةٍ من بعيد. قلتُ لأولادي أن يوصلوا وصيتي إليك، ففي كفّي بقايا حبٍّ، وموجاتٌ من الشوقِ لم تُسعفْها الرياحُ لتصلَ إلى قلبِك. لم أكنْ أجاملُ عندما وصفتُكَ بالسلطانِ وسيدِ العرب وأنّك والإمامُ الخامنئيّ أبوَا هذه الأمّة.
حبُّك واجبٌ، وولاؤك فريضة. هذا ما كنتُ أعتقدُه حتى الممات ولم أبدّل تبديلاً.
أريدُ لك مقاماً أعلى، ولأبنائك المجاهدين قدراً أجمل.
يبقى أن أقولَ لك، كنتُ أُمنّي النفسَ بالصلاةِ في المسجدِ الأقصى، ولكنَّ اللهَ الذي يرثُ الأرضَ ومَن عليها شاءَ أن يرثَ جسدي. المؤكدُّ أنك وكلُّ الشرفاءِ والأحرارِ ستدخلون فلسطين. لم تكنْ رؤياك التي قصصتَها عليّ نبوءةً. كانتْ أكثر. كانت شهوداً. «قد صدّقْتَ الرؤيا- يا سيد – إنا كذلك نجزي المحسنين». أليس: «والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سُبلَنا وإنّ الله لمع المحسنين». بلى، ستدخلُ فلسطينَ محرّراً ، وأنا على يقينٍ أنك ستفعل. وهناك. من حقي عليك أن تذكرَني بركعتين من صلاتِك.
أبي الذي أنقلُ لكم بعضَ كلماتِه..
لم يقف وراء المتاريسِ بل أمامَها من أجلِ الإسلامِ والمقاومةِ وفلسطين.
لم يهدأ حتى عندما استقرَّ ثلجُ الشيب على رأسِه ولحيته. كان يريدُ أن يعملَ أكثر ويعطي أكثر ويحبَّ أكثر.
كل المنافي التي انتمت إلى عمره، استقبلها بتسليم وسلام. ووقف بجسارة أمام عواصف أحداثها. صنع فيها درساً ومدرسة. دمعة للحسين. عمّر للمؤمنين بيتاً على اسم الزهراء. وسّع مساحاتِ الحبِّ والسلامِ والوحدة بين الإنسان والإنسان.
جعل بيتَه أولَ مأوى للمقاومين، وأولَ غرفةَ عملياتٍ للمقاومة، وأوّلَ مقرٍّ لقيادتِها.
أبي، قال لنا أن نتركَ كلَّ شيء وراءنا ونتشبثَ بالمقاومةِ حتى الممات.
أبي قال لنا أن نركضَ، يا سيدي الأعظم، نحوك حفاةَ القلبِ والقدمين.
أبي أوصانا أنْ ندفنَه في الأرض التي أحبّ، إلى جنبِ زيتونةٍ فلسطينيةٍ مباركةٍ لا شرقيةٍ ولا غربيةٍ [6] زرعها بنفسه، وفي بيتٍ أذنَ اللهُ أن يُرفع ويُذكرَ فيه اسمُه يُسبِّح له فيه بالغُدُوِّ والآصالِ.
أراك يا أبي بشموخ العابرِ إلى الجنةِ، بروحِك السمْحةِ التي تتجاوزُ فيها كلَّ إساءة، وبصلابتك التي تملأ هيبتَك ووقارَك.
كالنخلِ لاتنحني إلا ذوائبهُ.. إنّ الكبيرَ كبيراتٌ مُـدويةٌ أمجادُه.. وكبيراتٌ مصائبُهُ! [7]ويا سيدي الأمين. يا سيدي العالي، حتى في الرثاء نعثرُ عليك ضمنَ أحزانِنا الدفينة.
لكنْ، لا جنّةَ أجملُ من أن ترانا ونراك!
هوامش
[1] إشارة إلى مواظبته على صلاة الليل منذ صغره.
[2] إشارة إلى قصيدة نظمها في أستاذه السيد محمد باقر الصدر مطلعها شربت نمير العلم من منبع الصدر ،أبي جعفر شيخ الفلاسفة الغر
[3] السيدة زينب عليها السلام المدفونة في الشام.
[4] مطلع قصيدة للراحل ألقيت في أربعين الشيخ راغب حرب.
[5] من قصيدة للراحل ألقيت في مهرجان في مدينة قم المقدسة شباط 1983 والشطر الأول يقول فيه أبا مصطفى .
[6] أهديت له شتلة زيتون أتى بها بعض الأصدقاء من فلسطين وزرعها بنفسه في حديقة مجمع السيدة الزهراء(ع) في صيدا حيث دُفن.
[7] جزء من بيت شعري للشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد