قراءة تحليلية في كتاب “شيعة لبنان: الاجتماع الثقافي الديني” للشيخ أكرم بركات
كتب الشيخ عباس حايك:
يأتي كتاب “شيعة لبنان: الاجتماع الثقافي الديني (1900م ـ 2022م) ـ للشيخ أكرم بركات ـ كجهد توثيقي يستعرض تطور الواقع الشيعي اللبناني على مدار أكثر من قرن، مع التركيز على دور العلماء في مواجهة الاحتلالات، ودعم القضية الفلسطينية، والتأثر بالثورة الإيرانية. يتميَّز الكتاب بحجمه الضخم وغناه بالمصادر والمراجع، مما يجعله محاولة مهمة لرصد التحولات الدينية والثقافية والاجتماعية لدى الطائفة الشيعية في لبنان. وقد حظي الكتاب بإشادة بعض من العلماء والقرَّاء باعتباره وثيقة مهمة تعكس هذا التطور، فيما رأي آخرون أنه عمل انتقائي يفتقر إلى التوازن في الطرح..
1 ـ أهمية الكتاب وثراء مصادره
لا شك أن الكتاب يشكل إضافة مهمة في توثيق المراحل المختلفة التي مرَّ بها الشيعة في لبنان، بدءًا من العهد العثماني مروراً بالانتداب الفرنسي، فالاستقلال، وصولاً إلى العقود الأخيرة. ويبرز الكتاب دور العلماء والمؤسسات الدينية والثقافية في صياغة الهوية الشيعية اللبنانية، من خلال استعراض محطات مفصلية وشخصيات مؤثرة، مثل السيد عبد الحسين شرف الدين، والسيد محسن الأمين، والإمام موسى الصدر، والإمام محمد مهدي شمس الدين، والسيد محمد حسين فضل الله، إضافة إلى شخصيات أخرى كان لها أثرها في تشكيل الوعي الديني والسياسي للطائفة الشيعية اللبنانية الكريمة. وأيضاً يتناول الكتاب الأنشطة الثقافية والمؤسسات البحثية والإعلامية والتربوية التي لعبت دوراً أساسياً في بلورة الوعي الشيعي الحديث. وقد اعتبر بعض القرَّاء، مثل الدكتور الصحافي قاسم قصير، أن الكتاب يعكس حجم الجهود التي بذلها العلماء والمفكرون في بناء نهضة شيعية متماسكة، ويُعدُّ ردَّاً عمليَّاً على حملات الاستهداف التي تتحدث عن تهميش الشيعة أو محاولات إضعاف دورهم.
2 ـ الانتقائية في الطرح
رغم ثراء المادة التي يعرضها الكتاب، إلا أنه يعتمد على انتقاء شخصيات وأحداث تخدم رؤية معينة، حيث يبرز أدوار علماء معينين مثل السيد محسن الأمين، والسيد عبد الحسين شرف الدين، والسيد موسى الصدر، فيما يبدو التناول لشخصيات أخرى أقل حضوراً أو محاطاً بالحذر، مثل السيد محمد حسن الأمين والسيد هاني فحص. كما أن بعض المحطات التاريخية، مثل الخلاف بين حركة أمل وحزب الله ـ لا أعادها الله، ونحمده على اللحمة والوفاق ـ التي حصلت في الثمانينات، لا يعكس تأثيرها العميق على الواقع الشيعي اللبناني، وقد أشار بعض النقَّاد إلى أنه يُقلِّل من شمولية الكتاب، حيث كان يمكن أن يكون أكثر استيعاباً للتنوع داخل الطائفة الشيعية.
3 ـ التوثيق والمصادر
يعتمد الكتاب على مجموعة واسعة من المصادر الرسمية والموثقة، إلاَّ أن بعضها يفتقر إلى التدقيق العلمي الصارم في بعض المواضع، يتم الاستناد إلى روايات شفوية غير موثقة، مثل ” نقل لي أحد الأصدقاء، أو حدثني أحد الشيوخ عن قصة حصلت مع أحد العلماء الكبار، أو أحد الرموز” مما قد يؤثر على مصداقية الطرح. كما أن الاعتماد على مقالات صحفية ومواقع إلكترونية بدلاً من دراسات أكاديمية موثقة يطرح تساؤلات حول دقة بعض المعلومات المطروحة.
4 ـ العلاقة بين الدين والمشروع السياسي
يبرز الكتاب العلاقة بين الممارسة الدينية والمشروع السياسي، حيث يتم تصوير الالتزام الديني بوصفه مرتبطاً بمسار محدد، خصوصاً في ما يتعلق بالمقاومة والتأثر بالثورة الإيرانية. ومع أن هذا التوجه يعكس واقعاً قائماً، إلا أنه قد لا يعكس تعددية التيارات الدينية التي اتخذت مسارات مختلفة عبر التاريخ.
5 ـ معالجة المؤسسات الدينية
يتناول الكتاب المؤسسات الدينية والتعليمية ودورها في النهوض الثقافي للطائفة الشيعية، لكنه يُغفل بعض المحطات المهمة. على سبيل المثال، يذكر الكاتب أن “معهد الدراسات الإسلامية” الذي أسسه السيد موسى الصدر عام1964م توقف عن التدريس لاحقاً، بينما تشير الوقائع إلى أنه استمر تحت إدارة السيد علي الأمين حتى التسعينيات قبل أن يتم دمجه في “الجامعة الإسلامية”.
وأخيراً، يُمثل كتاب “شيعة لبنان” إضافة مهمة إلى دراسة الاجتماع الديني والثقافي للطائفة الشيعية في لبنان، ويعكس جهداً توثيقياً يستحق الاهتمام. ومع ذلك، فإن الانتقائية في الطرح، وضعف التوثيق في بعض المواضيع، والانحياز إلى سردية محددة، قد يؤثر على شموليته كمرجع تاريخي. كان يمكن للكتاب أن يحقق توازناً أكبر لو تبنى مقاربة تحليلية أكثر تعددية، تعكس التنوع داخل الطائفة الشيعية بعيداً عن الاصطفافات السياسية. ورغم ذلك، يبقى العمل جهداً كبيراً يستحق التقدير والمراجعة النقدية لتعزيز فهم أعمق لهذا الجانب المهم من تاريخ لبنان الحديث.