أخبار خاصةالاخبار الرئيسيةمقالات

حزن المقاومة: الإنسان أمام انهيار النظام الكوني

باسم الموسوي

1. تمهيد: الحزن بوصفه إدراكاً

في روايته «حزن المقاومة» (The Melancholy of Resistance)، يجعل لاسلو كراسنهوركاي من الحزن ليس شعورًا عابرًا، بل وعيًا كونيًا بانهيار النظام الذي يحكم العالم. إنّ الحزن هنا ليس انفعالًا وجدانيًا بل لحظة استنارة قاتمة، يدرك فيها الإنسان أنّ ما ينهار حوله ليس مجرد مدينة أو مجتمع، بل مبدأ المعنى ذاته.
كل ما هو مألوف — القطارات، الشوارع، الأحاديث اليومية، حتى الأخلاق — يتحول إلى شيء غريب، غير قابل للتنبؤ، وكأنّ قوانين العالم قد فُسخت. في هذه الفوضى، يظهر الحزن لا بوصفه ضعفًا، بل كقوة وحيدة لمواجهة العبث، كأنّ المقاومة لا تكون إلا حزينة، لأنها تعرف سلفًا أنّها ستُهزم.

2. قرية العالم: المأساة تبدأ من التفاصيل

تبدأ الرواية بمشهد بسيط ظاهريًا: قطار لم يصل. هذا التأخير، الذي يبدو عرضيًا، يكشف الخلل العميق في نسيج الواقع. فالأشياء الصغيرة — باب لا يُفتح، قاطرة تتوقف، إشاعة مجهولة — تتحول إلى علامات على انهيار كوني.
في هذه القرية، التي تمتد بين نهر التيزا وتلال الكاربات، يعيش الناس في انتظارٍ لا نهاية له. كل شيء في حالة تأجيل، وكل وعد بالانتظام ينكسر تحت ثقل الشك. كأنّ العالم دخل مرحلة ما بعد الزمن، حيث لا فرق بين الأمس والغد، وبين النظام والخراب.

3. الحوت: الرمز والكارثة

مع دخول السيرك الغامض إلى القرية، تتجسد الفوضى في صورة حوتٍ ضخم نافق. إنه ليس مجرد معجزة حيوانية، بل رمز للكتلة الميتة التي تغزو الوعي. فالحوت هنا هو العالم وقد مات، لكنه لم يُدفن بعد؛ كتلة ضخمة من الصمت والعفن والرهبة.
الناس يتجمعون حوله كما يتجمع المؤمنون حول أيقونة جديدة، يبحثون عن معنى في جثةٍ بلا حياة. وكأنّ كراسنهوركاي يريد القول إنّ الإنسان الحديث صار يعبد خرابَهُ نفسه، ويجد في انهياره طقسًا جماعيًا بديلًا عن الإيمان.
الحوت هو مرآة لكل فرد في الرواية: ضخامة بلا معنى، قداسة زائفة، وصمت يبتلع كل محاولة للفهم.

4. شخصيات على حافة الفوضى

في هذا العالم الكئيب، تتحرك ثلاث شخصيات أساسية:
• السيدة بلاوف: المرأة البرجوازية الصغيرة، التي لا تريد إلا السلام المنزلي والنظام، لكنها تكتشف أن الأبواب تُفتح على الرعب. إنّها رمز للطبقة التي تؤمن بالنظام لأنها لا تملك شيئًا سواه. مقاومتها للعالم هي في التشبث بالرتابة، بحوض الزهور، ببرنامج التلفاز، لكن تلك المقاومة تتحول إلى سخرية مأساوية: كيف تقاوم العالم بالمكنسة؟
• فالوشكا: الرجل البسيط الحالم، الذي يرى في الكون انسجامًا سماويًا ويبحث في السماء عن نظام خفي. يمثل النقاء الميتافيزيقي في مواجهة السقوط المادي. لكنه يُسحق في النهاية لأنه لا يدرك أن النظام الذي يؤمن به لم يعد موجودًا.
• الأستاذ إستر: الفيلسوف المعتزل، الذي يفهم انهيار العالم بعمقٍ مَرَضي، فيتحول إلى صمت. إنه المثقف الذي يرى كل شيء وينسحب، لأن المعرفة نفسها أصبحت عجزًا مقنَّعًا.

كلّ واحد منهم يقاوم بطريقته، وكلهم يخسرون. المقاومة لا تنقذهم، بل تكشف لهم عمق الحزن.

5. الفوضى كقانون جديد

في عالم كراسنهوركاي، لا تنهار القيم فجأة، بل تتآكل ببطء حتى يتعذر التمييز بين الفضيلة والجريمة، بين الدين والجنون، بين السلطة والجماهير.
الفوضى لا تأتي من الخارج، بل تنشأ من داخل النظام ذاته، كما لو أن التاريخ قد تعب من نفسه، والعقل ملَّ من تفسير الأشياء.
حين تسود الفوضى، يصبح الخلاص مستحيلًا، لأنّ البشر لم يعودوا يملكون لغةً مشتركة لوصف الكارثة. في لحظة كهذه، تصبح اللغة نفسها ضحية: الجمل الطويلة المتشابكة التي يكتب بها كراسنهوركاي ليست عبثًا أسلوبيًا، بل صورة لذهنٍ يغرق في الفوضى وهو يحاول الإمساك بالمعنى الأخير.

6. الحزن كموقف من العالم

ما يسميه الكاتب “حزن المقاومة” هو هذا الوعي العميق بأنّ الخير لا ينتصر، وأنّ الإنسان لا يستطيع إنقاذ العالم، ومع ذلك يصرّ على المحاولة.
فالمقاومة هنا ليست فعلًا سياسيًا أو بطوليًا، بل موقفًا أخلاقيًا وجوديًا: أن تظلّ متمسكًا بمعنى، ولو كان معنى الهزيمة نفسها.
هذا الحزن هو ما يبقي الإنسان إنسانًا. إنه نقيض النشوة الجماعية التي ترافق سقوط الحضارات. فحين يضحك الجميع أمام جثة الحوت، يبكي القليلون في صمت، لأنهم يعرفون أنّ ما مات أمامهم هو معنى العالم.

7. الفلسفة الكامنة: النظام، الجمال، والانهيار

تحت نثره الطويل، ينسج كراسنهوركاي سؤالًا ميتافيزيقيًا:
هل يوجد نظام في الكون؟ وهل الجمال إلا قناعٌ للفوضى؟
الأستاذ إستر يرى أن العالم كان متناغمًا يومًا، مثل تناغم نغمات فيركمايستر، لكنه ينهار لأن البشر نسوا الإصغاء.
وهنا يتقاطع النص مع فلسفة نيتشه في موت الإله، ومع نظرة كافكا إلى البيروقراطية الإلهية التي تفقد معناها. إنّ كراسنهوركاي يكتب عن عصرٍ ما بعد المعنى، حيث تحلّ الموسيقى محلّ الفلسفة، والحزن محلّ الإيمان.

8. السينما كصدى للحزن

حين حوّل المخرج بيلا تار الرواية إلى فيلم بعنوان Werckmeister Harmonies، لم يغيّر شيئًا من روحها: الظلام الطويل، الخطوات البطيئة، الصمت، الحشود التائهة.
الفيلم مثل الرواية طقس جنائزي للعالم. كلّ مشهد فيه يفيض بالحزن الصامت الذي يتجاوز المأساة الاجتماعية إلى الميتافيزيقا. وكأنّ الإنسان الأخير يقف على أنقاض الكون، لا ليصرخ، بل ليصغي إلى صوت الريح.

9. خاتمة: الحزن كآخر أشكال الوعي

«حزن المقاومة» هو عنوان يكثّف مفارقة الوجود الحديث:
أن نقاوم ونحن نعرف أنّ المقاومة بلا جدوى.
أن نتمسك بالكرامة في عالم بلا معنى.
أن نبحث عن نظامٍ نعلم أنه انتهى.

الحزن في هذه الرواية ليس ضعفًا، بل شكل الوعي الأخير قبل السقوط الكامل.
ففي عالمٍ ينقرض فيه الإيمان والعقل والجمال، لا يبقى للإنسان إلا أن يقاوم بحزنه — مقاومة خافتة، صامتة، لكنها إنسانية إلى الحدّ الأقصى.

«إنّ الحزن هو الوجه الآخر للعقل حين يكتشف أن العالم لا يمكن إنقاذه.»
— لاسلو كراسنهوركاي، حزن المقاومة

زر الذهاب إلى الأعلى